الثلاثاء 2021/05/04

آخر تحديث: 11:38 (بيروت)

قراءة نقدية لوثيقة الاتهام الدستوري ضد رئيس لجمهورية

الثلاثاء 2021/05/04
قراءة نقدية لوثيقة الاتهام الدستوري ضد رئيس لجمهورية
السعي إلى إلغاء الدستور وتغيير النظام (Getty)
increase حجم الخط decrease

أثارت المقالة التي وصفت بوثيقة الاتهام الدستوي لرئيس الجمهورية ضجة واسعة، وهي تستحق ذلك بلا شك، لأنها اتسمت بالجرأة في قول الحقيقة وبالجدية في مناقشة الأمور الدستورية، ولاسيما أن بين موقعيها عدداً من علماء الدستور النابهين، وهي من المنشورات القليلة التي وجهت الاتهام صراحة إلى رئيس الجمهورية بتماديه في خرق الدستور، ولعلها قد تفردت بالمطالبة بمحاكمته.

ولا شك في أن معظم هذه المقالة جيد دستورياً، لكنها لا تخلو من هنات، ومن أمور لا يمكن التسليم بصحتها، وسنعرض لحسناتها وللمآخذ عليها في هذه القراءة النقدية.

1- في الأمور الجيدة
أ‌- مما يستحق الثناء بداية، الديباجة التي تظهر الدافع الوطني لنشر هذه المقالة، والتحذير من المصير الذي سينزلق إليه الوطن إذا استمر خرق الدستور.

ب‌- وكذلك الكلام على نظام لبنان الديمقراطي البرلماني، ونفي التباسه بالنظام الرئاسي، وتوكيد مسؤولية الحكومة أمام مجلس النواب لا أمام رئيس الجمهورية، الذي يختص بصفة الحَكم، وإن كان ذلك غير دقيق، في رأينا، لأن الحَكم يستطيع أن يعاقب، وما يصح في فرنسا المستشهد بنصوص دستورها لا يصح في لبنان لاختلاف النظامين، وصلاحيات رئيس الجمهورية التي تستشهد بها المقالة على ذلك لا تدل على معنى الحَكم بل على معنى التوقير وعلى حق المراقبة المشروطة، وفرق بين الحَكم والمراقب.

ت‌- ومنها الكلام على انقلاب عون على الدستور وابتداعه أعرافاً جديدة لكونه في الأصل معارضاً له، وعلى ميله إلى المَلَكية المطلقة، والإشارة  إلى أن تغيير الدستور بطرق غير مشروعة أمر يعاقب عليه القانون.

ث‌- ومنها الكلام على الميثاقية التي يتخذها رئيس الجمهورية ذريعة لتجاوز الدستور ولتقسيم اللبنانيين إلى ميثاقيين وغير ميثاقيين، من أجل احتكار حزبه للمناصب والوظائف، وفرض حكومات وحدة وطنية يباركها أمراء الطوائف. وتقصر المقالة الميثاقية على ميثاق واحد هو المعزوّ إلى بشارة الخوري ورياض الصلح والقاضي بالاستقلال عن الشرق والغرب.   

ج‌- ومنها الكلام على المساواة بين اللبنانيين ولوم رئيس الجمهورية على عدم توقيعه التعيينات الناتجة عن امتحانات مجلس الخدمة المدنية وذلك بتفسيرات مشبوهة للمادة 95 من الدستور.

ح‌- ومنها دحض مقولة الرئيس القوي والمسؤول القوي، أي الأكثر تمثيلاً لطائفته، بأن الرئيس ممثل لجميع اللبنانيين لا لطائفة واحدة .

خ‌- ومنها تعداد المرات التي خرق فيها رئيس الجمهورية الدستور، كامتناعه من توقيع التشيكلات القضائية، وكإصراره على الظفر بحصة وزارية، وادعاء الحق بتعيين الوزراء المسيحيين، الأمر الذي ينفي عنه صفة رئيس كل لبنان، علماً بأن الدستور لا يخوله تسمية الوزراء المسيحيين ولا أي وزير مطلقاً، وإنما هي منه بدعة فيها اعتداء على الدستور، وكانقلابه على الدستور في تأليف الحكومة، وعلى النظام الديمقراطي الذي يقتضي وجود موالاة ومعارضة.

2- في المآخذ
أ‌- الذاتية:
إن المقالة تفتقر أحياناً إلى الموضوعية، وأول ذلك أن ديباجتها أطْرَت ثلاثة من الموقعين عليها، وهذا لا يُساغ في دراسة علمية لأن فيه محاولة للتأثير المسبق في القارئ، فضلاً عن أن أحد هؤلاء المطْرَيْن رجل سياسة له أنصاره وخصومه، ومدحه قد يؤثر سلباً في مضمون النص.

وتستشهد المقالة برأي لأحد موقعي المقالة، أنطوان مسرة، الذي يوجب على رئيس الجمهورية التزام الدستور لا التذرع بتفسيره من أجل بدع جديدة، وبرأي لحسن الرفاعي في اتخاذ الفقرة (ي) من مقدمة الدستور ذريعة لتعطيل الحياة الديمقراطية؛ فعلى وجاهة الرأيين، فإن على الباحث ألا يتحدث عن نفسه، وألا يتخذ نفسه شاهداً ومرجعاً، وقصاراه أن يدرج رأيه في النص من غير الإشارة إلى نفسه.

وتصب المقالة هجومها على مستشار رئيس الجمهورية سليم جريصاتي بما يشبه الذم الشخصي، وكأن نصها والردود عليه نقائض جرير والفرزدق؛ علماً أن رئيس الجمهورية مسؤول وحده عن أعماله، لا مستشاروه ولا موظفو القصر، لأنه هو الذي انتُخب للرئاسة وأقسم اليمين الدستورية، وهو الذي اختار مستشاريه، وفي مقدوره أن يتقبل آراءهم أو يرفضها أو حتى أن يستغني عن أولئك المستشارين ويصرفهم.

ب‌- الحشو
في المقالة حشو كثير، ومن ذلك أنها تعرض لتاريخ عون حيال الدستور ولعدائه له في أطول من صفحة، وبما يكاد يخرج عن الموضوع، مع أن عداء الرجل للدستور واضح في سلوكه وفي أقوال حزبه، وكان حسبها الحديث عنه في سطر أو سطرين ليس إلا.

وهي تستخدم شواهد كثيرة ليس لها قيمة الدليل الدستوري، وذلك لتفنيد السلوك الدستوري لرئيس الجمهورية، ومن ذلك الإكثار من الاستشهاد بأقوال رؤساء جمهورية سابقين، ولاسيما بشارة الخوري. والحقيقة أن هؤلاء رؤساء وعون رئيس، وليس كلام أي منهم دستوراً، ولا يمكن للشاهد غير الدستوري أن يدحض تأويلاً للدستور. ويقال الأمر نفسه في استشهاد المقالة بمواقف رجال الدين والسياسة وأقوالهم. صحيح أن ذلك قد يلقي ضوءاً على القضية بوصفه قرينة، لكن الغلو في استعماله وكأنه ثابت دستورياً ثبوت الدستور نفسه فأمر غير علمي.

ومن الحشو كثرة إيراد النصوص الدستورية وعدم الاكتفاء بموضع الشاهد، ثم التعليق على تلك النصوص بتكرارها في صورة أخرى (مثلاً: في البداية، تناول المادتين 50 و60 من الدستور)، وكان حسب المقالة أن تذكر موضع الشاهد عندما تحوج الحاجة إليه. والأمر نفسه يقال في النصوص الفرنسية الكثيرة التي حاولت المقالة بها تأييد آرائها، وكان الأَصح اختصار مضمون تلك النصوص، لأن تأثيرها في الموضوع محدود.

إن هذا الحشو قد أثقل المقالة وأطالها من غير جدوى، وجعل قراءتها متعبة.

المواقف السياسية الخلافية
إن بعض المقالة ينضح بمواقف سياسية تعبر عن رأي المجموعات التي ينتمي إليها عدد من موقعيها، وهذا يجعلها منحازة ولا تعبر عن رأي أكثرية الشعب اللبناني.

ومن ذلك القول أن الميثاق الوطني يعني الحياد، وأنه مسوّغ لدعوة البطريرك الراعي إلى حياد لبنان؛ والحقيقة أن الرئيس بشارة الخوري تكلم على الاستقلال وليس على الحياد، سواء حين ذكر الميثاق أو في خطبه العامة، وفرق كبير بين المصطلحين.

ومن ذلك الموقف السياسي من العقائد القومية ومن الفلسطينيين؛ فأصحاب المقالة يكادون يأخذون على المسلمين موقفهم من الوحدة العربية والقضية الفلسطينية موحين أن ذلك مجاف للميثاق. والواقع أن الميثاق ليس ملزماً إلا لمن اتفقوا عليه قبل الاستقلال، ويشبه الاتفاق بين عون والثنائي الشيعي قبل انتخاب عون رئيساً، وكان العونيون والشيعة يمثلون أكثر من نصف اللبنانيين، والقياس مع الفارق. والميثاق على كل حال أمر ملتبس وغير مؤكد، ولا يطالِب إلا بأن يتم استقلال لبنان بمعزل عن الشرق والغرب، لكنه لا يقضي بأن ينزل اللبنانيون، مسلمين ومسيحيين، عن عروبيتهم وعن قضاياهم القومية بعد إنجاز الاستقلال.

ومنه كذلك موقف عنصري إزاء الفلسطينيين، إذ تعتبر المقالة أن منح بعض الفلسطينيين الجنسية اللبنانية مبطل للمرسوم الذي شملهم بالتجنيس، لأن تجنيسهم يعني التوطين، وكذلك الأمر في تملكهم عقارات في لبنان. وفي ذلك مغالطة واضحة، لأن الفقرة (ط) من مقدمة الدستور تنفي التوطين لكن من غير تعيين، وقد حصل أجانب كثيرون على الجنسية اللبنانية، منذ الاستقلال، ومنهم عشرات الآلاف من الفلسطينيين المنتمين إلى طائفة معروفة، ولم يعدّ ذلك توطيناً، فإما أن يعدّ اكتساب الجنسية توطيناً ويمنع على الجميع وأما أن يعدّ حقاً إنسانياً يشمل كل من تتوافر فيه شروطه؛ والذي يولد ويعيش ويموت في لبنان أولى بالجنسية من الأجنبي الوافد عليه، وليس في العالم المتحضر دولة يولد الإنسان ويعيش فيها ثم يمنع من الحصول على جنسيتها، إلا دولة العدو الصهيوني..

أما القانون الذي يمنع على الفلسطينيين حق التملك فإقراره تماد في العنصرية، وهو مخالف لنص الفقرة (و) من مقدمة الدستور التي تكفل الملكية الخاصة من غير تعيين، فضلاً عن أنه مجاف للشرائع والمواثيق الدولية التي التزم بها لبنان.

ومنه ذلك الموقف المعادي لليسار اللبناني، إذ تنفي المقالة حق المنتمين إليه في تولي وزارة الاقتصاد؛ صحيح أنها زادت صفة التطرف على المحرمة عليهم هذه الوزارة، لكنها أوضحت أن ذلك التطرف يعني عدم الإيمان بالاقتصاد الحر! ومن الغريب أنها تدعو في الوقت نفسه إلى الديمقراطية. ألا يعلم أصحاب المقالة أن في الدول الديمقراطية، ولاسيما في أوروبا، أحزاباً يسارية لا تؤمن بالنظام الحر، وأنها تخوض الانتخابات النيابية ولها ممثلون في مجالس النواب والشيوخ، وأن بعض الدول الأوروبية ذات نظام اشتراكي، وأن عدداً من رؤساء فرنسا، مثلاً، كانوا اشتراكيين؟ والطريف أن المقالة تمنح الرئيس سلطة لم يطلبها ولم يفكر فيها، ففضلاً عن منحه الحق في منع اليساريين المتطرفين من تولي وزارة الاقتصاد فقد جعلت له الحق أيضاً في رفض الوزراء بناءً على سيرتهم ومواقفهم وبناء على إنزال عقوبات خارجية بهم. وهل من عاقل يتخيل أن عوناً يمكن أن يمنع باسيل من تولي وزارة الخارجية بسبب العقوبات الأميركية؟ إن هذه الصلاحية لا سند لها من دستور أو عرف، وقد نسي أصحاب المقالة أنهم سيقولون عما قليل : "أما دور رئيس الجمهوريّة الّذي يجسد استمراريّة النّظام [...] فهو السّهر على ألا تأتي الحكومة مخالفة للدّستور والأعراف" ولا ينص الدستور إلا على وجوب أن يكون الوزير حائزاً الشروط المؤهلة للنيابة، من غير إشارة إلى الأخلاق والعقائد السياسية، كما أن مثل هذا الأمر ليس عرفاً. إن المؤسسة الوحيدة التي يمكن أن تحرم المواطن من تولي الوزارة هي مجلس النواب وذلك بحجب الثقة عنه، وكل ما عدا ذلك كلام غير دستوري.

وأخيراً، تحت عنوان: "التّفريط باستقلال لبنان وسلامة أراضيه" تطيل المقالة في تعزير حزب الله والمحور الإيراني، حليفي رئيس الجمهورية، لأنهما عطلا الانتخابات الرئاسية وعرقلا تأليف الحكومات، وجعلا البلد فاقداً للسيادة والاستقلال، فضلاً عن أن الحزب يحارب في الخارج، إلخ. وتنسب إليهما كل الموبقات. وبصرف النظر عن موقفنا المعارض للحزب، ومهما كان أثر الحزب ومحوره في وصول رئيس الجمهورية إلى القصر وفي تأييده ومنع سقوطه، فالرئيس وحده هو الذي يتحمل تبعة أعماله دستورياً، ولاسيما أنه هو الذي سعى إلى عقد تفاهم مع الحزب لمصالح خاصة؛ وكما أن مستشاريه غير مسؤولين عن أفعاله، فكذلك حزب الله، وخاصة أنه لا دليل على أن الحزب حرضه على خرق الدستور، ولا شيء يفرض على الحزب ردعه عن ذلك، ونعلم أن خلافات متعددة وقعت بين الطرفين، فالرئيس قادر على رفض الإملاءات إن وجدت.

هذا وليس الحزب ومحوره وحدهما هما من شجع رئيس الجمهورية على التمادي في خرق الدستور، بل علينا أن نزيد عليهما عاملاً لا يقل خطورة عنهما وهو الحماية الطائفية للرئيس حتى من معارضيه، والقول إن رئيس الجمهورية لا يسقط ولا يستقيل ولا يقال، واستهجان التعرض لمقام الرئاسة، بوصفها عندهم المنصب المسيحي الأعلى.

وخلاصة هذه الفقرة هي أنه مما لا خلاف فيه علمياً أن البحث المنهجي لا ينبغي له أن يتأثر بالمواقف السياسية والعقدية للباحث، لأنه حيادي ولو كان يتناول أعداء الباحث نفسه. 

ت‌- الاستنتاجات غير الدقيقة
كثيرة إذن الاستنتاجات غير الدقيقة في المقالة، ومنها، وليس أهمها، الزعم أن مفهوم خرق الدستور والخيانة العظمى في لبنان وفرنسا أقرب إلى المفهوم السياسي منها إلى المفهوم الجزائي، ثم الإشارة إلى العقوبات التي تقع على من يرتكب هذين الجرمين. ترى أليس قانون العقوبات قانوناً جزائياً.

ث‌- ترك بعض الأمور الهامة
لم تتطرق الوثيقة إلى أمرين في غاية الأهمية وهما اغتصاب السلطة والتضحية بالشعب في سبيل المطامح الخاصة، وهذان يدخلان في بابين من أبواب الوثيقة وهما الانقلاب على الدستور والخيانة. فتعطيل تأليف الحكومة بذرائع غير دستورية، وإحلال رئاسة الجمهورية محل الحكومة ورئيسها بغير أي مسوغ دستوري، وأحياناً إحلال المجلس الأعلى للدفاع الذي يرأسه رئيس الجمهورية محلهما، سعياً إلى إلغاء الدستور وتغيير النظام، وصولاً إلى تحقيق مصالح حزبية وعشائرية، كل ذلك اغتصاب همجي للسلطة أفضى بلا ريب إلى انهيار الدولة والاقتصاد وجوع الشعب وموت أفراده وإلى الاضطراب الاجتماعي، ويوشك أن يُضيع حقوق لبنان في ثروته النفطية في الشمال والجنوب، فضلاً عن الخراب الذي يصيب الوطن من جراء الفوضى وغياب الدولة وامتناع المساعدات العربية والدولية، حتى مد الحكم يده إلى ما بقي من ودائع الشعب في مصرف لبنان وذلك لسد حاجات الحكومة ومؤسساتها من المال، وهو يريد أن يتمادى في ذلك لأن الدولة التي كانت في طريقها إلى الإفلاس قد أفلست كلية في النهاية بسبب هذا السلوك الرئاسي، وليس من حاجة إلى الاستنتاج أن هذه خيانة عظمى.

ج‌- الأخطاء اللغوية
وملحوظة غير مؤذية هي أن في المقالة أخطاء نحوية متعددة لا يجدر بقامات علمية رفيعة أن ترتكبها.

وفي النهاية لعل من المجدي أن يعيد أصحاب المقالة النظر في أفكارها وفي صياغتها قبل أن ينشروها على الملأ، وفي العالم، إن كان من سبيل إلى مراجعتها.  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها