السبت 2021/11/06

آخر تحديث: 12:12 (بيروت)

عربي وإيراني: محاولة الانحياز لبنانياً

السبت 2021/11/06
عربي وإيراني: محاولة الانحياز لبنانياً
ماذا يريد حزب الله في لبنان؟ (Getty)
increase حجم الخط decrease

أراد لبنان الناشئ من رَحَم القِسمَة الاستعمارية، الانحياز إليه، أي إلى نصٍّ مُقتَضَب من بين نصوص إعلان نشأته.. كانت النصوص التمهيدية كثيرة، وشاركتها النصوص الإنشائية في الكثرة وفي التكاثر.

رغبة ساكني لبنان، الوافد منهم حديثاً، والمقيم فوق أرضه قديماً، خالفت إرادة لبنانهم الوليد، فكانت لهم انحيازات، وانزياحات، أعَاقت معنى النشوء الأصلي، ثمّ مَنَعَتْه، ثم امتَنَعَتْ عليه، ثم أوْصَلَته إلى الدَرْكِ الكياني السياسي الهشّ الراهن، الذي باتت معه البنيّة جاهزة للكسر، لدى تعرّضها لأي اهتزاز مهما بلغت ضآلة قوته. اليوم، تَسْكُن الهشاشة كامل البنيان السلطوي الذي لم يُفلِح في إدارة شؤون انحياز لبنان إلى "مفهوم" ابتدائه.

لبنان اللبناني
وُجِدَ من دعا إلى لبنان اللبناني، ونافَحَ عن لبنانية لبنان كتّاب وسياسيون، ونهضت فوق فكرة اللبنانية "أدلوجات" أحزاب سياسية عديدة. اختلطت لدى أصحاب النظرة اللبنانية الوقائع بالأسطورة، وتداخل التاريخ العَيَاني بالتاريخ المتخيَّل.

تَضَخّمُ الأسطورة والمُتَخيَّل، شهد ازدياداً على امتداد فترات الاضطرابات الداخلية. كان الهروب إلى اللاواقعي، طَلَبَ تحصين الذات القائلة باللبنانية، ومتراساً أمامياً داخلها، وحاجز صدّ خارجها، في معركة الثبات ضد غزوات الانحيازات – الانزياحية الآتية من الخارج. لم تنجُ اللبنانية هذه من انزياحها إلى خارج مقاصدها، وهي تتوسّل دفاعاً عن انحيازها إلى ذاتها. كانت تلك خطيئتها "البنيوية"، التي لم تستطع تجاوزها إلى ما هو متقدّم عليها. السبب ذاتي تكويني أولاً، ولسبب "تَسَاكني" عام، مع مجموعات أهلية ظلَّت "ناقصة" اللبنانية لدى أصحاب النظرة اللبنانية "الأصلية". هؤلاء قاوموا الفكرة، واعتنقوا مبادئ ونظريات "غريبة" عن أطباع اللبنانيين، حقاً، ثم اعتمدوا نضالية فاقعة، لا مكان لها أيضاً، في أدبيات "الوداعة اللبنانية"، ولم يعهدها اللبناني "الأصيل" في إدارة شؤونه اليومية.

سقطت اللبنانية هذه، اللامنحازة إلاّ إلى ذاتها، في بيتها الأول، وشاركها السقوط لبنان العروبي، ولبنان الاشتراكي، ولبنان منّوعات النظريات القومية، ولبنان ذي الخلفيات الإسلامية والمسيحية والسريانية والفينيقية. باختصار، سَقَط "التاريخ" الخاص في لبنان، ومعه تداعى تاريخ الخصوصيات، ووقف الجميع أمام التاريخ المقفل الجديد، الذي لا يمكن الولوج إلى رحابه، إلاّ من فضاء التاريخ الواقعي العام، الذي عجزت الجموع اللبنانية عن بنائه، وها هي اليوم تنشط في هَدْم اللَبِنات القليلة التي أمكن إرساؤها، على امتداد العقود الكيانية الطويلة.

مرجعية قياس لبنانية
سقوط تجربة الانزياح عن لبنان "الممكن"، أخذ الجميع إلى التخبُّط في دوّامة لبنان "المستحيل". لبنان الممكن هذا، ما زال هو مدار تجديد المحاولة اللبنانية، المنحازة إلى مصالحها المتداخلة، القادرة على ضبط إيقاع خلافاتها، وعلى دفع عجلة تقدم الانتظام اللبناني العام. الفكرة العامة هذه، فكرة دمج المصالح، وتَبْيان تقاطعها، وضبط إيقاع "أوركستراها"، وتحديد ضابط الإيقاع، وأعضاء الجوقة، وتعيين "المقطوعة" المصلحية موضوع العزف.. كل ذلك، من شأنه جعل الفكرة، مع بنودها التفصيلية، مرجعية قياس يستند إليها من شاء تقديم فكرة اللبنانية، وباسم هذه المرجعية، ومن خلال قراءة بنودها، تسير عملية الفرز بيسر سياسي وأهلي، فيتسنّى لكل قائل أن يميّز بين ما هو مفيد للبنان اللبناني، وما هو مضرٌّ له، وبين ما يقع ضمن سياق الانتظام الداخلي المحمود، وما يشكّل خروجاً مرفوضاً على سياق الانتظام.

بناءً عليه، الشعارية الأهلية ليست مرجعية قياس، والاعتقاد بمبدأ سياسي محدد، عروبي أم ديني، لا يتجاوز حدود من يعتقد به، أما الالتحاق فممنوع من نقطة البداية، ولا ممرّ لعلاقة مع الخارج إلا من خلال السلطات الرسمية التي يُناط بها أمر عقد التحالفات والتفاهمات وإدارة العلاقات الوطنية.

واقع الحال
عاش لبنان حالة خروج مديدة على سياق انتظامه ككيان، ويعيش راهناً، حالة تكاد تكون الأردأ، من بين الحالات التي عَصَفت ببنيانه. أطراف الحالة كُثُر، وهم معروفون يطلّون من الشاشات ويهلّون من الأثير، ويصرخون في الساحات، وهم مشدودو الآذان، والعصب، لتلبية كل نفير.

بنود الحالة يمكن اختصارها بالأهم من بينها. يتصدّر الصراع العربي الإيراني المواضيع، ومنه يتفرع ويتشظّى، بند عربي، ينضوي تحت رايته عدد من البلدان العربية، وبند داخلي، يتصدره الشقاق المذهبي المتداخل سنيّاً وشيعياً، والخلاف المتداخل أيضاً، مسيحياً وإسلامياً.

عند اعتماد فكرة المرجعية التي أشير إليها، تَبينُ حالة الخروج على الانتظام العام، لدى أطراف الاشتباك السياسي، وتظهر مسؤولية كل طرف بعينه، بحيث لا يقف الجميع على أرض المساواة في المسؤولية، بل يتوزّعون هذه الأخيرة بمقادير. أمر المسؤوليات ليس عصيّاً على الفهم، ولا يقع في باب المجهولات، بل هو معلوم ومعروف، مثلما أهله وأصحابه والقائلون به، معروفون بالأسماء وبالأقوال وبالمصالح. في سياق "المعلوم" وانطلاقاً من الفكرة القياسية المرجعية، نسأل: ماذا تريد إيران من لبنان؟ هذا من منطلق وطني داخلي، ونؤجل سؤال: ماذا تريد إيران من العرب عامةً، ومن دول الخليج العربي على صعيد محدَّد. السؤال الداخلي، المتفرّع من السؤال الخارجي: لماذا تُدير إيران علاقتها بالبلد اللبناني بسياسة الفرز الأهلي؟ وإذا كان ثمّة طلبات إيرانية من لبنان، فما هي؟ نفترض أن الجواب الإيراني متشعِّب، ويرمي إلى مصالح معينة، ونفترض أن المقولة الإيرانية قابلة للحوار لبنانياً، وقابلة للنقاش المصلحي المتبادل، إذا كان الأمر كذلك، يجب أن نفترض أن خطاب حزب الله الموجَّه إلى الداخل اللبناني، ليس جواب الدولة الإيرانية، فالدولة لا يختزلها حزب في داخلها، ولا تصغر حتى تصير على مقاس خطاب حزب في خارجها. هذا الافتراض، المنسوب إلى تمثيلية خطاب حزب الله، يفرض النقاش في الجزء الداخلي من خطاب الحزب، أي في الشقّ المتعلق بلبنانية النقاش، المشحون بكل "الإرث الكياني" اللبناني الثقيل. في سياق هذا الإرث، حيث الكتلة الشيعية أصلية، وحيث تمثيلها الحالي، طارئ، نسأل: ماذا يريد حزب الله في لبنان؟ الجواب الأولي على هذا السؤال، ومن جانب من يطرحه، لا يتضمن بندين، الأول، هو ما يشيعه الحزب من "طهرانية سياسية"، والثاني ما يسوقه خصوم الحزب من "شيطنة" سياسية. لماذا؟ لأن واقع الحال اللبناني قدّم سنوات من التجربة، كانت خلاصتها الأهمّ، التداخل الدائم بين "الطهرانية – الشيطنة"، والرقص فوق حبال هذا التداخل، الذي لمّا يعرف الاستقرار.

على السويّة ذاتها، وبالتوجّه إلى الوضع العربي، نسأل: ماذا يريد "العرب" من لبنان؟ ولأن اللحظة، لحظة تداعيات قرارات عدد من الدول العربية الخليجية، يصير السؤال موجهاً إلى المملكة العربية السعودية المعنيّة قبل غيرها بالاستهداف.

السؤال العربي، عن الطلبات العربية من لبنان وجهه الآخر: ماذا يستطيع لبنان حيال المطروح عليه؟ وهل تتوسّم الدول العربية قدرة للبنان على الاستجابة كما هو مطلوب منه، في ظل ظروفه المعروفة؟ بالانتقال إلى التحديد: ماذا يستطيع لبنان للمملكة العربية السعودية؟ الجواب لا يطلب "صفحاً" عن الممارسة الداخلية اللبنانية، بل يقترح نقاشاً لتفاهم لبناني سعودي – عربي – لبناني، حول ما يستطيعه لبنان الممكن، وكيف يدار الخلاف مع إيران ومع سواها، في الداخل وفي الخارج، بما يحفظ لبنان الممكن فلا يوصله إلى لبنان المستحيل. لقد افترضنا أن تماسك لبنان يشكل مصلحة إيرانية، من منطلق المصالح وليس من منطلق الإعلانات السياسية. ومن باب أولى الافتراض، أن ديمومة لبنان، واستقراره، واستعادة سياقه الطبيعي، فيه مصلحة عربية، لسبب عروبي ولسبب مصلحي داخلي خاص بكل دولة عربية.

تأسيساً على المقولة العربية، وانطلاقاً من حساب المصالح الداخلية، نعيد التأكيد على حيوية انتماء لبنان إلى عمقه العربي، وعلى انخراطه في قضاياه، وعلى المساهمة في ردّ الأخطار عنه. لنا أن نسجّل في هذا المقام، أن ذلك لا يشكل عودة إلى برامج "ثورية انقلابية" ماضية، مثلما لا يشكل موافقة على أنماط نظامية رسمية حالية سائدة.. لكنه لا يشكل ارتداداً على "مفهوم" العروبة، ذات الأبعاد الثقافية والحضارية والتاريخية المشتركة، أي العروبة التي يُراد لها أن تكون "مِرْجَل" تفاعل بين شعوب بلدانها المختلفة، ذات سياقات التطور الداخلي المتنوعة. ماذا يرتّب ذلك؟ هذا يستدعي انحيازاً أوّل إلى البعد العربي، وعلى ذلك الانحياز يخاطب ما هو خارج الانتظام العربي العام، هكذا نصبح أمام انحيازين متكاملين: انحياز الداخل إلى داخله، وانحياز حصيلة الداخل إلى انحياز المحصلات الداخلية العربية، التي تتضمن الاستقرار والأمان وديمومة السلام الداخلي، والسلامة الخارجية.

القول الأخير
استدعاء الآخرين إلى ساحة النقاش الحقيقي، مهمّة صعبة، ومما يزيد في صعوبتها، انكفاء ما كان يساراً ناطقاً من خارج الانتظام الرسمي، ونكوص من يعلن ثقافة، أو ثقافوية، عن خوض سجال فكري متعدِّد الجوانب، مع التضليل العام، الذي تضجُّ به الأيام اللبنانية.

القول الآخر، مهمّة راهنة. الفئة المغايرة، قولاً واستقلالية، ليست في عالم الغيب. التذكير بأن اللبنانيين يستحقون لبناناً آخر، واجب القول، والتحرك في هذا السبيل "فرض عين".. لا يفيد الانتظار.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها