السبت 2024/05/04

آخر تحديث: 10:12 (بيروت)

المقاومة اللبنانية: درب المزارع لا تصل إلى القدس المحتلة

السبت 2024/05/04
المقاومة اللبنانية: درب المزارع لا تصل إلى القدس المحتلة
موقع لبنان الحالي في الصراع العربي-الاسرائيلي يثير نقاش أمور كثيرة (علي علوش)
increase حجم الخط decrease

تتابع المقاومة اللبنانية عملياتها القتالية في جنوب لبنان، وتحافظ عموماً على قواعد الاشتباك المرسومة مع العدو الإسرائيلي. القتال المقاوم الذي تقوم بأعبائه المقاومة الإسلامية اللبنانية، أثار، منذ إطلاق الرصاصة الأولى، حفيظة قوى أهلية لبنانية عديدة، وما لبث غضب "الحفيظة" أن تتطور حتى استوى في ما يقترب من انتظام معارضة ترفض السلوك المقاوم، وتتبرأ من تداعياته، وتدعو إلى حياد الجبهة اللبنانية، وتحذّر من مغبّة تصاعد الأعمال القتالية، وتبدي الخوف على المصير اللبناني، بعدما جاهر العدو بنيّته استهداف كامل الساحة اللبنانية.

على جادّة النقاش الواقعي الهادئ، نعيد التذكير بأن تبادل المقدّمات والخلاصات بين قوى الافتراق اللبناني، تُعوْزه المرجعية السياسية العامة التي يستند إليها، إذ من دون تحديد المرجعية، ومن دون تعيين خطوطها العريضة، يظل النقاش هائماً على وجه سطوره، بين كلمات الافتراق، أو بين جمل الاعتراض، وبين مدوَّنَات التوافق. عليه، إن قيادة النقاش إلى ساحته الحقيقية، تشكل مهمَّة أولى بين المتناقشين، والوقوف فوق ساحة "الحقيقة"، عامل ثبات يقي أصحابه من السقوط في أوهام الثرثرة السياسية.

السؤال الذي يطرح نفسه على مقاربة ما يحدث في الجنوب، هو: ما الإطار المرجعي للنقاش، وأين هي ساحاته؟ وما هي امتداداته وتداخلاته؟ اعتماد الاختصار في كل جواب، على التحديد، يمنع الاسترسال غير المفيد، لذلك وعلى جادّة الاختصار نكرّر الدعوة إلى اعتماد مصطلح الصراع العربي الإسرائيلي، وموقع لبنان منه وفيه، كمرجع نقاش، ليظلّ مفهوماً سياق الانخراط في يوميّات الاشتباك المتصاعد منذ ما بعد 7 تشرين الأول 2023.

مصطلح الصراع العام المشار إليه، يتجاوز ما تطرحه المقاومة الإسلامية الحالية، عن نفسها وعن أسباب اشتباكها، ويمنع القطع الذي تقيمه هذه المقاومة مع عقود الصراع التي خاضتها أحزاب أخرى ساهمت في الانتصار للقضية الفلسطينية، ثم قدَّم بعضها قراءات نقدية لمساهمته الانتصارية، التي تجاوزت على قدرة الاحتمال اللبناني، فأوقعت البنية الداخلية تحت ثقل القضية الفلسطينية التي ناءت معظم البنى العربيّة بأعباء حملها.

موقع لبنان الحالي في الصراع، يثير نقاش أمرين، من بين أمور كثيرة، الأمر الأوّل، هو أين أصبح هذا الصراع بعد عقود من اعتماده، وبعد كل المآلات التي انتهى إليها، وبعد التطورات التي أصابت قواه، على صعيد عربي عام، وضمن الداخل الإسرائيلي، وعلى الصعيدين الإقليمي والدولي؟ السؤال ليس أحجية، وجوابه واضح المعالم، وأهم ما في وضوحه خلاصة تقول: لا يمكن اعتماد حَرْفِيّة معادلة الصراع، بذات الزخم الذي كان لها بُعِيْد ضياع فلسطين، أو بذات الحماس القومي - الثوري، الذي كان له على امتداد سنوات الكفاح المسلح الفلسطيني، الذي ترجّل هو الآخر عن "صهوة" التثوير والتحرير.

أمّا الأمر الثاني، فهو هل زال الخطر الذي يشكله الكيان الإسرائيلي على لبنان؟ وهل هناك ما يوجب امتلاك عناصر القوة الدفاعية اللازمة للوقاية منه؟ وهل الخطر أحادي الجانب، بحيث يمكن اختصاره بالتهديد الأمني للبنان، أم أن مفردة الخطر هي مُفْردٌ باسم جمع الأخطار الاقتصادية والسياسية والاجتماعية... التي ما زال لبنان معرّضاً لها، في حالة الهدوء مع الكيان، أو في حالة الاشتباك معه؟

للوهلة الأولى، قد يبدو أن طرح الأمرين يضمر الموافقة على مجمل السلوك الذي تعتمده المقاومة الإسلامية اللبنانية، نشير سريعاً إلى أن الأمر ليس كذلك، وجُلَّ المطلوب هو الانتباه إلى أن للسلوك المقاوم الحالي أصلٌ معلوم في السيرة اللبنانية، لذلك يجب التمييز بين الانطلاق من قراءة الأصل، للوصول إلى قول رأي في السلوك وفي النهج. من شأن التمييز أن يعيد تثبيت ما هو واجب التثبيت، وأن يزحزح ما هو واجب الزحزحة، وأن يقول نعم ولكن حيث يجب، ونعم ولا، واضحتين حيث يجب أيضاً.

من الثابت، حسب رأينا، أن الصراع مع العدو الإسرائيلي ما زال مستمرّاً، وسيظل كذلك، حتى قيام شخصية وطنية فلسطينية مستقلّة، في دولة سيدة حرّة مستقلّة.

ارتباطاً بالهدف الفلسطيني البعيد، الذي مازال هو قلب الصراع ومحرّكه، سيظل الخطر الإسرائيلي على لبنان، في أبعاده الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والمالية والثقافية ماثلاً، ولا يخفى على ذي اهتمام أن لكل خطر من هذه الأخطار شرحه الخاص المستفيض، عندما توضع البنية اللبنانية على طاولة "التشريح" التكويني، من دون قفازات جراحين، ومن دون مخدّر جراحي.

من الثابت أيضاً، أن الاختلاف مع المقاومة الإسلامية اللبنانية اليوم، يجب أن يكون مع سياساتها ومع أدائها ومع تجاوزها على أحكام البنية اللبنانية التي تفكَّكت ذات يوم، ولا نريد لها أن تتعرَّض لعملية تفكيك جديد، هذا لأن الاختلاف العميق حول انخراط اللبنانيين في تحالفات خارجية لم يحصد اللبنانيون منه إلاّ مرارة الزؤان.

مع الثابتين اللذين لا يحجبان ثوابت إضافية، تلحّ الضرورة على السّجال مع "خطابين" متعارضين اليوم، يقتربان من حالة التضاد "العدائي" لجهة ما يثيرانه في كل بيئة أهلية خاصة، من احتقان ومن سياسات إقصائية متبادلة. السجال مع الخطابين المنوّه عنهما، هدفه الواحد، تعرية كل منهما من أغلفته الداخلية، بعد تبيان حقيقة إسناده الخارجي، ودعوة أصحاب هذا الخطاب وذاك إلى نقاش المصالح العارية، بلا مخمل يستر الأيدي ولا حرير يُدَثَر الأجساد، ولا قناع يحجب ما تنطق به الأعين من كلام مستور.

نقطة البدء مع المقاومة الإسلامية، رفضُ استئثارها بصياغة الرّد على مساهمة لبنان في النسخة الحالية من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بعد أن تراجع البُعد العربي في هذا الصراع. المساهمة شأن لبناني عام، لأنها تدور فوق كل أرض لبنان، ولأن تداعياتها تصيب كل لبنان، ولأن نتائجها تقرر مصير كل لبنان. اللبناني المعرّض لخسارة حياته، أو أملاكه، له الحق في أن يكون شريكاً في نقاش احتمال الخسارة، ليكون مسؤولاً عن موافقته، أو عن رفضه للمعركة المندلعة على الحدود اللبنانية. اللبنانيون شركاء في الخسارة، وشركاء في الربح، هذا هو منطق الأمور الوطنية.

اللبنانيون مسؤولون جماعيّاً، وليسوا مدعوّين إلى احتفال تأييد هذا الطرف السياسي أو ذاك. لذلك، فالمسؤولية تقتضي المشاركة من دون إقصاء، ومن دون قفز فوق الهواجس الأهلية المعلنة والمستترة.

النقطة الثانية في نقاش المقاومة، هي نقطة عنوان المعركة التي انضمت إليها، فجعلت قتالها إسناداً لقطاع غزّة، ونَعَت من سقط من أفرادها "شهداء على طريق القدس"، وعَلَّقت كل المسار الداخلي اللبناني على "سارية" مدّة القتال المندلع فوق أرض فلسطين.

يفتح العنوان على المبرّرات التي ساقتها المقاومة الإسلامية لتسويغ مشاركتها الحربية، فلخصتها بتخفيف ضغط الآلة الحربية الإسرائيلية على غزّة، وبإشغال تشكيلات قتالية على الحدود مع لبنان، ثم أضافت إلى المبرّرات مبرّراً استطرادياً هو: وصف المعركة بأنها قتال استباق لمنع العدو من أخذ لبنان "المقاوم" على حين غرَّة... لا يعدم المعترض على خطاب المقاومة ردوداً تفند بنوده، وخاصةً في بنده السياسي: دعم غزّة، وفي بنده القتالي: استباق مفاجأة العدو. منطلق التفنيد أمران، الأول هو أن القتال من لبنان، لم يمنع ما حصل حتى تاريخه في غزّة، والثاني: أن الاستباقية المفاجئة، قد تتدحرج إلى توقيت حرب معلنة على لبنان، إذا قرّر العدو رفض قواعد الاشتباك بعد أن صارت قواعد حرب مفتوحة.

ينطلق الخطاب المعارض لسياسة وسلوك المقاومة الإسلامية، من بند أساسي تشكل السيادة اللبنانية عماده، ثم تتفرّع من هذا البند عناوين فرعية تكمل مبنى ومضمون الحالة الاعتراضية.

تأخذ السيادة مداها عند جمع المعارضة فتصير إقصائية حصريّة عندما تجعل تعريفها الدولتي إطاراً تحديديّاً للسيادة، ثم تسقط من مساحة الإطار كل ما تفترضه معارضاً لهذا التحديد. يفتح تعريف السيادة الدولتي الحصري على نقاش مواضيع "العصبيات" الأهلية – الطائفية، التي ما زالت منذ الاتفاق على اجتماعها في حلبة واحدة، تعيش هواجس رسم الحدود المنفصلة بين حكايا تواريخها المختلفة.

عطب أساسي تعاني منه السيادية المعارضة هو إلحاق المقاومة الإسلامية بالخارج، ومن ثمّ إسقاط كل البعد الداخلي الذي يؤطر هذه المقاومة. في الحالة اللبنانية الراهنة، الخارج الأساسي موضوع الاعتراض، هو الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي رفع بعض المعارضة خطابه ضدها إلى حدّ وصفها "بالعدو"، من دون الانتباه إلى أن الوصف هذا يتصل مباشرة باستعداء المقاومة المشكو من سلوكها ومن ارتباطها الوثيق بمحور الممانعة الذي تقوده الجمهورية الإيرانية.

عطب آخر، هو القول إن المقاومة الإسلامية لا تريد الدولة... والحقيقة أنها تريد الدولة التي تراها الأنسب لمصالحها، هذا تماماً ما تسعى إليه السيادية التي تسعى إلى دولة تلائم مصالحها، وتلائم استطراداً كل مصالح اللبنانيين! السؤال، ألا تشترك السيادية مع المقاومة، في إسقاط جملة مصالحها على مصالح كل اللبنانيين، من باب المطابقة، ومن باب الإلحاق بجملة اعتراضية واحدة؟!

لكن لماذا الخوض في نقطة السيادة، وفي نقطة الداخل والخارج، وفي نقطة نفي الداخلية المتبادل بين الساسة الألداء؟ غاية الخوض، إن إدارة الخلاف الداخلي يقتضي الانخراط في ابتكار سياق سياسي يجمع بين ما لا يمكن القفز فوقه، من صنف حياد لبنان التام، ومن صنف الخارجية المتنقلة كاتهام جاهز متبادل بين الأهليّات، وبين ما يمكن التوافق عليه، أو التفاهم حول حدوده من صنف حصّة لبنان في ظلّ الصراع الدامي الحالي في فلسطين، مع مراعاة أمرين جوهريين إثنين لا مناص منهما: الأول هو الحفاظ على استقرار لبنان، وعدم تعريضه لاجتياح إسرائيلي يعيد احتلال بعض ما تحرر من أرض لبنانية محتلة، أما الأمر الثاني، فهو الحفاظ على السلم الأهلي الداخلي، وتجنب الانزلاق إلى اختلال التوازن الفاضح بين الأهليّات، والمبادرة حقاً إلى ترميم ما تصدّع من بنية المؤسسات وإلى إعادة الروح إلى المواقع الشاغرة في هرمية الدولة، وفي مقدمتها التوافق على انتخاب رئيس للجمهورية.

قد يكون المدخل إلى ذلك، حصر نشاط المقاومة القتالي ضمن عنوان لبناني واضح هو: تحرير ما تبقى من أرض لبنانية محتلة، وإنفاذ مفاعيل القرار 1701 على جانبي الحدود. في الحصرية اللبنانية هذه، إشغال لتشكيلات عسكرية إسرائيلية، مما يشكّل إسناداً لفلسطين، حسب شعارية المقاومة، وفي الحصرية أيضاً، لبنانية سياسيّة تنتهز الظرف لتنفيذ ما تبقى من إزالة "آثار العدوان" على لبنان. ستكون تسوية ممكنة، إن تداعى الأفرقاء إلى تهدئة الداخل من دون اتهام ومن دون تخوين، وسيكون من الانشغال بالهمّ الوطني تبادل طلبات التلاقي للبحث والتوافق على إدارة سياسية مختلفة لهذه المرحلة العصيبة، وستكون عندها خلاصة أجدى هي خلاصة شعار آخر مضمونه: على طريق مزارع شبعا والغجر وباقي الأرض اللبنانية المحتلة، بديلاً من "على طريق القدس... والتحرير الكامل... وأوهى من بيت العنكبوت...".

طريق المزارع، قد يبلغ سالكه المراد... طريق القدس لم يصل كل من سلكه إلاّ إلى طاولة المفاوضات... تلك هي الحصيلة منذ عام 1948 وحتى اليوم، فهل في الحوزة حصيلة نضالية مغايرة؟!!


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها