الأربعاء 2019/11/27

آخر تحديث: 01:50 (بيروت)

يسار حزب الله و"مهمّشو" الدراجات النارية

الأربعاء 2019/11/27
يسار حزب الله و"مهمّشو" الدراجات النارية
العام 2008 حين تم قطع الطرق بالسواتر الترابية وكان وسط بيروت محتلاً لحوالى سنتين (Getty)
increase حجم الخط decrease

رفض أبو علي أن تتحرك الجرافة، التي جلبها حزب الله ليزيل التلة الترابية المرفوعة على جسر فؤاد شهاب، وتقطعه من الجهتين.

كان اللبنانيون قد ذهبوا إلى الدوحة وأعلنوا من هناك اتفاقاً مجيداً، بعد اجتياح 7 أيار المجيد في العام 2008، وبدأوا بفتح الطرق التي قطعتها سواتر عالية من التراب والردم، لكن أبو علي وقف في منتصف الجسر أمام التلة، رافضاً تطبيق ما اتفقت عليه دول عدة، ولبنانيون عديدون. ولولا أن مسؤولاً رصيناً ملتحياً يحمل جهازاً لاسلكياً بيده انتحى بأبو علي جانباً، وهمس بأذنه كلاماً كبيراً لا أحد سمعه غيرهما، لما اقتنع أبو علي، ولفشل الاتفاق الدولي برمته.

الإبن البار للحرب
أبو علي كان مسؤولاً حركياً في المخيم الذي، كما نسينا، احتل حرفياً كل وسط البلد لحوالى السنتين، وقطع كل الطرق المؤدية إليه وأقام حواجز عند مداخله. يومها كان العونيون مشاركين في اللعبة بصفة متفرجين. أبو علي لم يكن متفرجاً، ولم يكن لا بشوشاً ولا ودوداً ولا لطيفاً. كان عابساً، وابناً باراً للحرب الأهلية وجد فرصة تاريخية في العودة إلى الشارع. كذلك فعل أتراب أبو علي في حزب الله وحركة أمل والحزب السوري القومي الاجتماعي والبعث.. في اجتياح بيروت والجبل. أجروا جولة تعريفية بالحرب وأدبياتها لشبان لا يذكرون ما قبل 1990 أو ولدوا بعدها. صنعوا من بيروت بعد معركة "تطهيرها" مدينة ملاهٍ مقطعة الأوصال بحواجز يقف عليها مدنيون مسلحين، بجعب مليئة بالرصاص، يفتشون السيارات ويسألون الركاب عن هوياتهم، ويقولون للسائق "روح الله معك" بفائق التسامح الميلشياوي العتيد.

أبو علي هو النموذج الذي يقف عنده يسار الشيعية السياسية دائماً ليمطرنا بالذنب: مهمشو أحزمة البؤس، أبناء النزوح وضحايا الاقطاع  وإهمال الدولة المتعمد.  المظلومون طبقياً، من أوغلت الحريرية في سحقهم. المحرومون من الإنماء. الذين  يعانون  ليس الفقر وحسب، بل التمييز.

مشاعر جياشة
إنهم زعران فعلا، لكن لا ذنب لهم، حسب اليسار الممتد من هضاب بوليفيا إلى مجلس شورى حزب الله. إنهم الضحايا المباشرون  لسياسات ما بعد الطائف، التي كان فيها حزب الله وحركة أمل الطرفين الأقوى بحكم الحلف العميق مع القائد حافظ الأسد، وابنه من بعده. لا ذنب لهم في أن يحقدوا على الحيز العام لأنهم محرومون منه، ولا ذنب لهم في كره الفرح لأنهم ممنوعون من الفرح، ولا ذنب لهم أخيراً في الاستقواء على كل اللبنانيين بعد حرب تموز 2006 لأن كل اللبنانيين (ما عدا العونيين) شمتوا بهم وهم يقاتلون إسرائيل وحدهم وينتصرون عليها.

علينا، حسب منظري يسار حزب الله أن نرضى باستقوائهم بصفته احتجاجاً وصرخة مظلوم. علينا دائماً أن نتفهم مشاعرهم الجياشة ودراجاتهم النارية وهتافاتهم العارية من أي تورية باسم طائفتهم. علينا أن نتفهم مشهدهم فالتين بتطرفهم الطائفي في الطرق، لأنهم فقراء. وإذ يجود اليسار الشيعي بالعطف عليهم، فلقلبه اليساري الكبير، هو الذي يعرف أن هؤلاء ليسوا من حزب الله، بل ليسوا حتى من حركة أمل. إنهم مهمشو أحزمة البؤس، يعبرون عن شعورهم بالخوف والوحدة في هذا العالم الموحش الذي يحيط بهم.

بين النجمة والأنصار
ولأن الآخرين لا يفهمون جرحهم الدفين، فهم مغبونون حتى من أهل بيتهم، الذين غالباً ما يرفعون الغطاء الحزبي عنهم بعد نزولهم الجماعي المنظم، وهتافهم الموحد، وتطبيق ما يحتاجه الثنائي منهم. وغالباً ما يتم التبرؤ منهم ومن أفعالهم، من اعتداءاتهم الموصوفة، من دراجاتهم النارية، لكن بعد أن تصل الرسالة المكررة في ترهيب الشارع وتخويفه من الحرب الأهلية.  يعاملون معاملة جيش من المرتزقة يقوم  بالمهمات الوسخة التي يأنف الثنائي من أن يقدم عليها بنفسه. لكنهم ليسوا مرتزقة. إنهم الصوت الأعلى والأجرأ للخطاب. خط الهجوم الأول غير المعلن. 

يحكي اليسار العلماني، المذهول بالنظام الإيراني حكراً، عن ركاب الدراجات النارية كأنه يحكي عن سكان مدن الصفيح في البرازيل. ويمنع، مع ذلك، صفات التهميش عينها عن إسلاميي الشمال أو الشيخ الأخرق أحمد الأسير أو حتى شبان طريق الجديدة، الذين لا يفرقون عن أشقائهم الشيعة في شيء إلا في الانقسام بين ناديي النجمة والأنصار. الظروف الاجتماعية عينها، والتعصب الطائفي عينه، والانتماء إلى الطبقة المقدسة عينها.

حتى النخاع الشوكي
يقدمهم إلينا خارجين من الخندق الغميق كأنهم هاربون من قلعة محاصرة وجائعة، هو الذي لا يفرق عن البسطة القريبة، وعن معظم مناطق بيروت. خارجون من "مجاهل" الضاحية الجنوبية، التي باتت بدورها تختصر بأنها حزام بؤس مع أنها اكتفت بنفسها مدينة كاملة فيها طبقاتها الاجتماعية المتعددة وأغنياؤها وفقراؤها وأبناء طبقتها الوسطى. يقدمها إلينا بصفتها خزاناً لا مهمة له إلا أن يسقي الثنائي بالمناصرين. لكنها ليست كذلك. الضاحية نفسها التي تخرج منها الدراجات الطائفية يعود إليها بنات وأبناء بيوت فقيرة ومتوسطة وغنية كل يوم بعد مشاركتهم في 17 تشرين. قد يستخدم بعضهم الدراجات النارية في تنقلاته لكنه على الأقل تخفف من فائض القوة وثقله. 

يقدمهم إلينا بصفتهم لا يعرفون ماذا يفعلون. هكذا، مجموعة من  القاصرين عن إدراك واقعهم.، عن إدراك حقوقهم الطبقية، لذا فهم لا يجيدون إلا التعبير الطائفي. بالكاد يعيب عليهم طريقتهم في التعبير هذه، لكنه سرعان ما يبرر قصورهم المعرفي، فهم مهمشون، أقل من أن نحاسبهم كمواطنين مسيسين متطرفين طائفياً، مع أنهم، مع كل نفس يتنفسونه، يشددون على أنهم طائفيون تماماً، حتى النخاع الشوكي، وهذا ليس عيباً فيهم وحدهم فقط، إنه وباء لبناني عام. على الأقل لديهم من الشفافية والوضوح ليفخروا بطائفيتهم.

البذاءة والثقافة
هذا ما يريد منظرو "حزب الله يساري" أن تنتهي إليه الطائفة. مهمشون على دراجات نارية وبيئة المقاومة من جهة، وكارهو أنفسهم، شيعة سفارات من جهة ثانية. وفي خانة تحمل اسمها، يضعون ديما صادق. يشن راكبو دراجات وسائل التواصل الاجتماعي حرباً مقززة ببذاءتها عليها وحدها، بصفتها الشمر اللعين ويزيد بن معاوية معاً. وينتصرون مراراً وتكراراً عليها، كتاباً رصينين كانوا أو مارقين، بصفتها عبرة ودرساً لكل شيعي خارج عن الطوع. هو الشيعي الذي يخيف حزب الله أكثر ما يخيف، وقد خرج يتظاهر ليس ضده بالتحديد كما كان يفضل الحزب، بل ضد الثقافة التي يقوم عليها  هذا البلد. الثقافة التي تحقر راكب الدراجة النارية، بينما تدفعه بكل قوتها ليسحق ثائراً يظن لسذاجته أنه يتظاهر من  أجلهما معاً ضد عودة زمن 13 نيسان الغابر، وضد مجد قائم كمجد 7 أيار. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها