الأربعاء 2023/04/19

آخر تحديث: 07:53 (بيروت)

"تغيير جو".. كنا بانتظار المصريين لنرى بيروت

الأربعاء 2023/04/19
"تغيير جو".. كنا بانتظار المصريين لنرى بيروت
أبطال مسلسل "تغيير جو"
increase حجم الخط decrease


صنّاع مسلسل "تغيير جو" يعرفون بيروت، ويعاملونها بلطف. هي بيروت وديعة التي تقدمها المخرجة مريم أبو العوف والكاتبان منى الشيمي ومجدي أمين في المسلسل الاجتماعي. وديعة لكن حقيقية، موجودة بالأحرى بتفاصيلها. عدم فهم المصرية، الواصلة لتوها إلى المدينة، ما الفارق بين التاكسي والسرفيس. حشرُها بين راكبتين على المقعد الخلفي للمرسيدس "القطش" الأيقونية. إنزالها بالقرب من بدارو، وليس في بدارو جرياً على عادة سائقي السرفيسات. الخرائط المستحيلة التي يروح اللبناني يشرحها مستعيناً بساعديه ليدل السائل إلى مكان هو على الأرجح لا يعرفه.. عصبيتهم الزائدة.
تفاصيل تبدأ لحظة نزول شريفة (مِنّة شلبي) في مطار بيروت بزيارة يفترض أن تستمر يوماً واحداً، لكن الحبكة تجعلها تمتد على طول المسلسل تقريباً. وإذا كانت شريفة بطلة الحبكة الأولى، سرقة حقيبتها وانخراطها في قصص عاطفية، فإن الخط الدرامي الثاني للمسلسل كانت لشوارع بيروت فيه دور رئيسي. المناطق بأسمائها، فرن الشباك وبدارو والحمرا والدورة. النسيج الاجتماعي الذي فيه أكاديمي مصري (أيّاد نصار) أرمل لبنانية مسيحية، عامل محطة الوقود مصري (عصام عمر)، بلا أوراق إقامة وعمل رسمية، وصديقته الأثيوبية (سابا ألامو). الشابة اللبنانية التي تعيش مع صاحبها في شقته (آية أبي حيدر بدور مريم وسعيد سرحان بدور وسام)، هكذا، بتلقائية أن بيروت، خلافاً لعواصم عربية عديدة، تستوعب مثل هذا النوع من العلاقات. شقة وسام نفسها، العادية، وليس تلك الشقق التي تظهر في المسلسلات، كأنها جزء من غاليري مفروشات.. وصولاً إلى عشوائيات الأوزاعي حيث الأزقة الضيقة والغرف المبنية كيفما اتفق يقطنها خليط من عمالة أجنبية، أفريقية وآسيوية. العشوائيات التي تطل على الشاطئ الرملي الذي تكتسحه بالأوساخ، والمياه التي تتدرج ألوانها بحسب كثافة المياه المبتذلة التي تصب فيها.

تتنقل الصورة، بعيون المصريين، بين أمكنة بيروتية عديدة، هي تلك التي عشنا ونعيش فيها. تستغل ألوان الشوارع كما يجب، ترهلها حيناً، أو أناقتها وجمال طبيعتها المحيطة حيناً آخر. في الحالين، وجرياً على عادة صناعة الدراما في مصر، تنقل الشوارع كما هي ولا تعمل على تنظيف الكادر من الشوائب ومما يدل على المكان، أو على الأقل من تحديده. تجري الحياة في المسلسل خارج المناطق المزروعة بالفيلات الفخمة وشجر الصنوبر. هذه العوالم التقليدية في ال soap opera اللبنانية التي يمكن لثلاثين حلقة فيها أن تدور في غرف القصور، يخرج منها الممثلون والممثلات أحياناً، بكامل أناقتهم المستدامة، إلى مكاتب شركات شديدة الفخامة بسيارات شديدة الفخامة.. بعبارات ونظرات غاضبة أو خائفة هي نفسها، من مسلسل إلى آخر إلى ما شاء الله.

لا عيب في هذا النوع من المسلسلات. هو ناجح عالمياً ولا شك أنه ناجح لبنانياً أيضاً، وإلا لما تكرر مسلسل مثل "للموت" في ثلاثة أجزاء. العيب في أن يكون النوع اللبناني الوحيد. المدرسة التي أسستها مجموعة من الكتّاب والمخرجين منذ عقود ما زالت ذاتها، حتى غياب الجيل المؤسس وحلول أكثر من جيل بعده. ما زال الجميع يسير على خطى القوالب الجاهزة: موجات تلو موجات من المشاهد التي تقتصر على الكاميرا تتنقل بين وجهي اثنين يتكلمون ببطء غير منطقي، ويقولون كلاماً غير منطقي، بناء على أحداث غير منطقية في زمان ومكان مجهولين. هكذا، فإن في أرشيف من آلاف الساعات التلفزيونية، تراكم خلال عقود من التكرار، كان نادراً مرور مسلسل يوثق أي تحولات في المجتمع اللبناني، مشاكله السياسية والاقتصادية حربه الأهلية وما بعدها، التغير الذي طرأ على شوارعه، وتركيبتها، اللغة بين الناس والتي بدروها تتبدل. وإذا كان هناك من عمل ما نجا من هذه المعادلة، فهذا لا يلغي قاعدة أن الدراما التلفزيونية اللبنانية كلها كانت أشبه بفانتازيا، تدور في فقاعة أمان خاصة بها، حيث الجبن يصل إلى حد عدم استخدام اسم دال طائفياً، وحيث العقدة الكبيرة هي في مؤامرات الخواجة، وعلاقة الحب المستحيلة بين الفقيرة والغني..
هذا الأرشيف، قديمه اللبناني الصرف، أو جديده اللبناني السوري، جهد مهدور سدى، يُظلم فيه ممثلون محترفون يمكنهم أن يقدموا أبعد بأشواط مما تسجنهم فيه شروط الفرانشايز. ويظلم فيه أي احتمال لنقاشات أصلية دائرة في البلد، وطبعاً يظلم فيها الشارع اللبناني، هذا الذي احتفينا به في مسلسل من المفترض أنه مصري تجري أحداثه في بيروت.

كان علينا أن ننتظر المصريين كي نرى بيروت، وكي يؤدي ممثلون لبنانيون أدوارهم باقناع وكي تحكي الشابة الأثيوبية باللغة التي تعلمتها وليس تلك التي يفرضها كاتب معجب بخفة دمه وإيمانه العميق بالتنميط معاً. "تغيير جو" بالقصة الخفيفة الأقرب إلى الكوميديا، لم يكن واجبه تناول قضايا لبنانية على أي حال، لكنها الأمانة الدرامية، جعلت بعض خطوط الحبكة الثانوية الموازية للرئيسية، لا تنزل من فوق على لبنان، بل تأتي منه. ماذا يقدم اللبنانيون في المقابل، مسلسلات إذا كان هناك من لا يجد في "تغيير جو"، عملاً جيداً، فليختر أي خمس دقائق من أي حلقة في مسلسل حالي ويحاول أن يقاوم الضغط كيفما اتفق على الريموت كونترول.
المقارنة بين لبنان ومصر ليست عادلة بحق الإثنين. مصر آلة انتاج عملاقة وعتيقة للسينما والتلفزيون والمسرح. تنتج كماً هائلاً من المسلسلات والأفلام سنوياً، فيها ما يلائم الأذواق والأنواع كلها. الصناعة ترفد طوال الوقت بكتاب ومخرجين وممثلين. لبنان، على عادته، مكتف ببضعة منتجين ومخرجين وكتاب ونجوم. المقارنة غير جائزة. لكن المصريين، في "تغيير جو" بدوا كمن يلمحون لزملاء المهنة أن المجتمع في لبنان خليط معقد تنتج منه عشرات القصص التي فيها ابناء طبقتين دنيا ووسطى، موجودون ليس فقط للوقوع في غرام الأغنياء أو للسيطرة على "الشركة"، بل يعيشون حيواتهم كما هي، بتعقيدات مجتمعهم كافة وتنوع جنسياتهم، وهي قصص تستحق أن تروى بالقدر نفسه الذي تستحق فيه شوارع بيروت أن تُصوّر، وأن نعرف بينما نشاهد، ما اسم الشارع، وفي أي عام نحن، وكم سعر صرف الدولار.. وتفاصيل أخرى ثانية تتراوح بين الأسباب الموجبة للانتحارات المتتالية مؤخراً، أو تكلفة فاتورة استشفاء.. أو حتى، في الجانب الوردي للقصص، المصاعب العادية التي يلاقيها زوجان شابان كانا سعيدين بحياتهما، قبل أن يتحول راتباهما مجموعين إلى مئتي دولار. أمور كهذه. تحدث.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها