الأحد 2023/03/05

آخر تحديث: 08:07 (بيروت)

التخصيب الايراني للازمات..والاغراءات

الأحد 2023/03/05
التخصيب الايراني للازمات..والاغراءات
increase حجم الخط decrease

في سياسة الدول لا يظهر شيء أو يحصل عن طريق الصدفة أو الخطأ، فكل شيء يكون مدروساً ومقصوداً وغرضه آخر الأمر إيصال رسالة أو تحقيق مطلب وهدف.  هذا هو حال ظهور نسب تخصيب لليورانيوم في إيران تصل تقريباً إلى تسعين بالمئة، وهي النسبة التي تمكن النظام من إنتاج القنبلة النووية، ولا تحتاج بحسب الخبراء والمسؤولين الأمريكيين لإنتاج السلاح النووي سوى إثني عشر يوماً.  ورغم انكار النظام الإيراني نيته إنتاج سلاح نووي، فسماح النظام بظهور هذه النسبة هو مقصود ومدبر، غرضه القول أن إيران باتت قادرة على الانتقال، ولعلها انتقلت  فعلياً لا رسمياً، لتكون في مصاف الدول النووية.  وهو انتقال يغير قواعد لعبة الصراع والمواجهة بين إيران وخصومها، ويعدل الكثير من طبيعة الحضور  الإيراني عبر وكلائها في المنطقة، بخاصة  حزب الله.

هذا التخصيب يعني نهاية المفاوضات النووية بين إيران والدول الخمس زائد واحد.  على الاقل تغير في بنود وعناوين التفاوض، الذي كان غرضه في السابق حفظ درجة التخصيب دون ستين بالمئة، ووضع سقف لكميات اليورانيوم المخزنة.  ومع تجاوز إيران كل هذه السقوف، فإن معطيات التفاوض قد تعدلت جذرياً، وبالتالي بتنا أمام قواعد اشتباك مختلفة بين الطرف الإيراني والطرف المفاوض له، تستدعي سياسات جديدة وبنود تفاوض مختلفة.

على المستوى الامريكي، يبدو أن معطى التخصيب الجديد قد فاجأهم وأربكهم في الوقت نفسه، بحكم انشغالهم بجبهة أوكرانيا وعدم رغبتهم في تحمل فتح جبهات أخرى، وبحكم إصرار سياسة بايدن على إعادة تفعيل الاتفاق النووي السابق ليخدم أمرين: أولهما الانقلاب على سياسة ترامب السابقة، أي توظيف سياسي في الداخل الأمريكي ضد الجمهوريين، وثانيهما وجود رؤية اعتمدها أوباما في السابق ويتبناها بايدن حالياً تقوم على تحييد إيران عن الصراع والتنافس الدولي بين الولايات المتحدة من جهة والصين ورسيا من جهة أخرى، بل حتى الاعتراف بإيران شريكاً فاعلاً في رسم سياسات منطقة الشرق الأوسط مقابل التزام النظام الإيراني بأطر عامة تضعها الولايات المتحدة للمنطقة.

رغم قول بايدن بأن كل الخيارات مفتوحة وموضوعة على الطاولة بما فيها الخيار العسكري، إلا أن هذا قول ليس سوى لتمضية الوقت، بل يعبر عن غياب تصور واضح للتعامل مع المرحلة الجديدة، بخاصة مع وجود من يعتقد في البيت الأبيض، مثل وزير الخارجية الحالي، بإمكان عكس مسار الأمور وإرجاعها إلى وضعية ما قبل التخصيب العالي والقدرة على التسلح النووي. وهي دبلوماسية لا تعني المزيد من الضغوط والحصار على إيران، بل تعني المزيد من تقديم الإغراءات المالية والسياسية للنظام الإيراني ليعود إلى وضعية ما قبل القدرة على إنتاج السلاح النووي.

أما الطرف الأوروبي، فزيادة على ارتباكه، هو في حالة قلق، بحكم أن محاذير أوروبا من إيران نووية أكثر وأعمق من المحاذير الأمريكية.  والذي زاد الطرف الأوروبي قلقاً هو إنخراط إيران مباشرة وصراحة في الحرب الاوكرانية لصالح روسيا، ما يعني تحول الغزو الروسي لأوكرانيا إلى مواجهة بين محاور دولية، ما يهدد بكوننة الجبهة الأوكرانية، وتحولها إلى كرة ثلج تكبر باستمرار وتتدحرج من دون كوابح.

أما الطرف الإسرائيلي فيزداد رعباً، لأن مسألة التخصيب الإيراني قضية وجود بالنسبة إليه بعدما أعلن النظام الإيراني منذ تأسيسه تقريباً عن نيته إزالة إسرائيل من الوجود. هو رعب تشرَّبه حالياً المزاج العام الإسرائيلي، وانعكس في وصول تيارات يمينية إرهابية إلى السلطة، وممارسة السلطة الإسرائيلية لعمليات قتل واغتيالات جماعية غير مسبوقة في الضفة الغربية، والسماح الضمني لمستوطنين يهود باعتداءات وحشية على قرى فلسطينية آمنة، فضلا عن التصريح الخطير لوزير إسرائيلي بمحو قرية حوارة الفلسطينية من الوجود. هي جميعها مسلكيات لا يمكن فصلها عن السياق الإيراني الحالي، وتخدم أمرين:

أولهما رفع وتيرة الأداء الإسرائيلي من ضبط النفس إلى أسلوب الضرب المؤلم والمدمر، الذي كان الداخل الفلسطيني أول نماذجه وتجلياته، لكنه في عمقه يعبر عن تغير إسرائيلي جذري في التعامل مع المخاطر والتهديدات المحيطة بها، بخاصة التي تأتي من إيران. كأننا أمام جهوزية إسرائيلية لحرب قادمة.

ثانيهما الضغط على صناع القرار الأمريكي، بضرورة التعامل الحازم مع النظام الإيراني، من خلال التهديد الإسرائيلي بالاشتباك العسكري المباشر معه بغرض شل قدراته النووية.  هذا الضغط تلقته الإدارة الأمريكية ببرودة عالية، واكتفت بالإعلان عن تفهم حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها، لكن ذلك لا يعدو كونه تهدئة خواطر الإسرائيليين أكثر من كونه توليد استراتيجة مواجهة عسكرية ضد الإيرانيين.

أما الإيرانيون، فقد عرفوا كيف يستفيدوا من التناقضات القائمة. وظهور نسب تخصيب عالية لم يكن صدفة بل هو مقصود، لتغيير مسار التفاوض النووي المتعثر، لغرض رفع سقف المطالب والشروط، وتوظيف جملة عوامل توفر له مرتكزات قوة وأرجحية في المفاوضات القادمة، وفي موضع من يملي شروطه.

تحقق هذا من خلال:  التعمد برفع نسبة التخصيب إلى المستوى المطلوب لإنتاج قنبلة نووية، لتقول إيران للعالم: أنا جاهزة لصنع القنبلة النووية ما هي عروضكم للعودة عن هذا القرار وهذه الجهوزية؟  ومن خلال تعمد التحالف مع روسيا في حربها الأوكرانية وتزويدها بسخاء بالمسيرات الحربية، رغم أن هذه الحرب لا تعني للنظام الإيراني شيئاً، ولكن تحالف النظام مع روسيا يفيده على المدى القصير في استقدام عروض مغرية من الطرف الغربي لتحييدها، وتفيده على المدى البعيد في تحقيق طموحه ببناء حلف عسكري دولي يشبه حلف الناتو أو حلف وارسو يكون النظام الإيراني عضواً مؤسساً وفاعلاً فيه، ويضم أكثر مكونات الطرف الشرقي من العالم، بالأخص روسيا والصين، يغطي نشاطه التوسعي في المنطقة ويحميه من اية ضربة عسكرية أمريكية محتملة في المستقبل.

يدرك النظام الإيراني والغرب معاً أن لا مستقبل صحياً بينهما، لا على مستوى القيم والبنية السياسية، ولا على مستوى الثقافة والمصالح الاقتصادية.  ورغم ذلك يعرف هذا النظام كيف يستدرج أميركا والدول الغربية ويوقعهم في فخه ليتمكن من ابتزازهم وخداعهم، بأن يخلق المشكلات ويهندس الأزمات المتنقلة والمنتشرة في المنطقة، وفي الوقت نفسه تكون مفاتيح الحل بيده، ويعرض على الأمريكي والغربي المساعدة ليشاركهم في حلها. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها