الأحد 2023/02/19

آخر تحديث: 12:38 (بيروت)

الثورة الإيرانية:أكون أو لا أكون

الأحد 2023/02/19
الثورة الإيرانية:أكون أو لا أكون
increase حجم الخط decrease

 

 عجز أكثر باحثي الثورات عن بناء نظرية علمية أو فكرية حول موجبات حدوث الثورات أو امتناعها، فشلها أو نجاحها.  لم يستطيعوا جميعاً،  بعد قراءة وتشريح ثورات فعلية مثل الثورتين الفرنسية والروسية،  تقديم أكثر من اقتراح عوامل مرجِّحة ومحتملة لحصول الثورات، من دون أن يكونوا قادرين على التثبت من حتميات تاريخية مقترحة أو قدر إلهي مدعى، أو حتى وضع معادلة محكمة أو رسم مسار متقن يفسر تفجر الثورات، فلاحها أو إخفاقها.   ما اتفق عليه أكثرهم، أن الثورات تحصل فجأة من دون تخطيط أو توقع مسبق حتى من قِبَلِ أصحابها أنفسهم.   حين تفشل تسمى تمرداً وعصياناً وخروجاً، وحين تنجح تسمى ثورة وبداية عهد جديد بقيم جديدة وقيادات مختلفة.

يبدأ تأسيس الثورة عادة بعد نجاح أي حراك أو احتجاج في إسقاط السلطة القائمة، والشروع في تأسيس سلطة جديدة تقوم على قواعد مشروعية مختلفة، والتفكير الجدي بموجبات استمرارها وبقائها.   أي يبدأ العقل الثوري نشاطه بعد نجاح الثورة لا قبلها، لا لغرض تفسير ما حصل أو تسويغ مقدماته وذكر العوامل التي سبقته، بل بالاستناد إلى الثورة كأمر واقع منجز لغرض بناء أيديولوجية ثورة تهبها مشروعية بقائها واستمراريتها، وتخلق دافعاً وجاذباً لتعميمها وانتشارها وحتى تصديرها.

هذا يعني أن أيديولوجية الثورة ليست سابقة على الثورة بل لاحقة عليها بعد تحققها لتكون منتجاً من منتجات واقعها السلطوي.   هي لا تبنى وتصاغ لتغيير واقع قائم وتبديله، بل غرضها تثبيته وترسيخه وتأبيده.  وهذا يكون بتمجيد الواقع القائم والتسامي به من خلال ربطه: بمطلق متعال على متحولاته الفرعية، ومبدأ ثابت وراء مظاهره الزائلة، ولوغوس عقلي مبرم لا يمكن نقاشه أو الشك فيه وراء لايقين جزئياته.  فالأيديولوجيا تصور واقع الثورة الجديد، على الرغم من محدوديته وتعثراته البشريتين، على أنه استجابةٌ وتجسيدٌ لحقيقة وراء بشرية مطلقة ذات طبيعة كلية وضرورية، أي حقيقة شاملة لا استثناء فيها، وحتمية قدر لا فرار منه.

هذا يجعل الأيديولوجيا في عمقها حقيقة سلطة جديدة جاءت لتحل محل حقيقة سلطة أخرى زائلة.  أي هي (الأيديولوجيا) حاجة سلطة توفر للسلطة المشروعية والمقبولية والإذعان، وهي في الوقت نفسه تقوم بوظيفتها وتحقق أغراضها من خلال سلطة واقعية تبثها وتنشرها وتحرص على حصريتها.   من هنا ينشأ التلازم الذاتي بين السلطة والحقيقة، حيث لا يمكن لأحدهما أن يوجد من دون وجود الآخر. فترابطهما يشبه الترابط بين دال الكلمة ومدلولها، والاقتران الثابت بين وجهي العملة الواحدة.

لهذا تحرص الثورات المنجزة على توفير شرطي السلطة والحقيقة معاً لضمان بقاءها واستمراريتها.  السلطة توفر شروط الإكراه الخارجي، وهي أيضاً حارسة الحقيقة وأدواتها ووسائل تعميمها ونشرها وإزاحة كل ما يزاحمها من حقائق.  أما الحقيقة فتوفر شروط الإذعان الداخلي بالسلطة والارتقاء بها في الوعي من اعتبارها ظاهرة بشرية محدودة إلى أن تكون ظاهرة مطلقة وجليلة وحتى مقدسة. وهو ما يشي بأن كل مشاريع التغيير الناجحة في التاريخ الإنساني، بما فيها الثورات العنيفة، تشبه في منطقها وبنيتها وشرعيتها المنظومات الدينية التي تنشَدُّ إلى المطلق الثابت والمتعالي وتتمحور حولهما.  ما يجعل إيديولوجيا الثورات في عمقها إيديولوجيات دينية رغم الإلحاد الظاهر في مضمونها.

نماذج ثورات ثلاث نعرفها، لم تخرج في تأسيس نظام ثورتها عن ثنائي السلطة والحقيقة المطلقة، هي الثورات الفرنسية والروسية والإيرانية.

أما الثورة الفرنسية، التي مثلت تتويجاً لعقلانية الحداثة، فقد مجدت الحرية الإنسانية ورفعتها إلى حد التأليه، ما أدى إلى تفريغها من محتواها، وتحويلها إلى ضدها، أي تحويلها إلى مقولة جبرية ملزمة يعاقب عليها ويُعدم كل من يرفضها أو يعارضها.  هذا تسبب بأن تنتج هذه الثورة نقائضها وتفشل في خلق واقع يجسد الحرية الإنسانية تجسيداً حقيقياً.  وهو غرض لم يتحقق إلا حين انتبه جيل متأخر في هذه الثورة إلى أن الحرية ليست أمراً مطلقاً، بل ليست مقولة عقلية خالصة، وإنما هي حرية سياسية أي حرية داخل الدولة، تتحقق بنظام علاقة الفرد مع غيره، أي تتحقق بما يحدها ويقيدها لا بما يطلقها ويحولها إلى ما يشبه حرية بداوة شاردة في أرض مقفرة. 

أما الثورة الروسية، فقد تقمصت حتمية المادية التاريخية، وادعت نهاية التاريخ عند عتبتها، وأخذت تضخم حجم خصوم التقدم وأعداء القوة العاملة، ولم تقبل على نفسها الإنكفاء أو التراجع أو حتى السماح بأية مراجعة داخلية رغم تخبطها وتراكم أزماتها وبروز عوامل تفككها، ما أدى بها إلى أن تنهار من الداخل وتعلن نهايتها بنفسها، وتكون ضحية مطلقاتها وما ورائياتها المتعالية على الشرط البشري، بمحدوديته وتناهيه.

أما الثورة الإيرانية، وأقصد هنا النظام السياسي الذي تأسس بعد الثورة، فقد اعتمدت منذ البداية المطلق الإلهي مصدراً وأساساً ومنطلقاً لأية قيمة أو مفهوم أو سلوك سياسي.  مغيبة بذلك البعد الأرضي، بتمظهراته الموضوعية ومكوناته الإنسانية. واضعة إرادة الإنسان على الضد من إرادة الله، لتسوغ بالتالي حجب الحرية الإنسانية عن الوعي بها ومنعها من الظهور والتعبير.  ومُصوِّرة الثورة قدراً ربانياً وتأييداً إلهياً لا يتوقف في جميع لحظات ومحطات نظام الثورة مهما اشتدت الصعاب وتعاظم الاحتجاج الداخلي.

بالتالي لا يعود هنالك مجال أو معنى للإصلاح والمراجعة والتغيير، بحكم تصلب ذهنية المطابقة بين الواقع القائم والحقيقة المطلقة، أي انتفاء الفجوة بينهما بعد تحويل الحقيقة إلى واقع مجسد، ووصول الواقع إلى أقصى مراتب الحقيقة. ما يجعل ثورة الحق حقٌ في كل الأحوال والوضعيات.

إدعاء المطابقة بين الواقع والفكرة التي يروجها كهنة هذه الثورة وحراسها، خلق: انفصاماً بين حقيقة متخيلة وبين واقع فعلي، فجوةً تتعمق بين ما تدعيه الثورة لنفسها وما هو منجز، ومسافةً تتسع بين الحقيقة المُنتجة والمزاج الشعبي العام. هي معضلة يعمد النظام باستمرار إلى تجاهلها والتنكر لها، من خلال تنشيط أجهزة الدعاية والترويج، بتبجيل الثورة ومنجزاتها، وتحويل مناسبتها إلى عيد مقدس، لغرض تعميم صورة مضخمة لواقع وهمي ومتخيل، تغطي على الواقع الفعلي وتطمس تفاعلاته ووقائعه.

حظي النظام الإيراني منذ تأسيسه قبل أربعة وأربعين عاماً،  على أكثر من فرصة إصلاح داخلي، من حربه مع العراق، إلى عقوبات خارجية عليه، إلى ثورة خضراء، إلى احتجاجات أخيرة تطالب بالحق الشخصي في الاختيار.  لكنه أبى في كل مرة إلا الإعراض عما تطالب به طبيعة الأمور على الأرض من جماد وبشر، والمضي في الرهان على مطلقه المقدس حتى النهاية. ما يشي بأنه يضع نفسه قبالة العالم كله، ويصور معركته ضد هذا العالم، في الداخل الإيراني وخارجه، على أنها معركة: إما أن أكون أو لا أكون.

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها