الإثنين 2023/03/20

آخر تحديث: 06:06 (بيروت)

الثورة السورية لم تنته بعد

الإثنين 2023/03/20
الثورة السورية لم تنته بعد
increase حجم الخط decrease

سواء نجحت الثورة السورية أم لم تنجح، وسواء استمرت أم أنها انتهت وأخذت مساراً آخر يختلف عن بداياتها. فإن من المؤكد أن هذه الثورة حركت الراكد وأنطقت الصمت وكابدت الخوف وكسرت رعب المحرمات والممنوعات وتجرأت على المستحيل.  نستحضر مناسبة انطلاقتها، لا لنحاكمها أو نعلن نهايتها، فهذا نتركه للسياسة والتاريخ وضمائر الموثقين.  وإنما لننعش ذاكرتنا بصرخات الحرية المنبعثة من جرح الكرامات المهانة، ونداءات الــ "سلمية" الصاعدة من جحيم الإذلال والترهيب اليوميين، وإرادة التحدي التي قمعت فزعها المزمن ورعبها الدفين، والإصرار العنيد على أن الحياة تستحق شروطاً أفضل لكي تعاش. 

يكفي أن أكثر السوريين نزلوا إلى الشارع: ليعبروا عن وجعهم وأنين ظلاماتهم، ويحتفوا بحريتهم الموعودة ومستقبلهم المتخيل رغم رصاص جلاديهم الذي كان يمزق أجسادهم بلا شفقة، ويعلنوا عن أمالهم المتواضعة وأحلامهم البسيطة التي هي بمقاييس واقعهم الخانق وظرفهم المهين مستحيلة.  لم يكن لديهم رؤية سياسية أو خطة تغيير، ولا يحق لأحد أن يطالبهم بذلك أو يعيب عليهم ذلك.  فالمشهد كان مِيتا سياسي، أي يتجاوز السياسة ويجعلها تفصيلاً ثانوياً. كان مشهداً إنسانياً بإمتياز، يستمد قميته من ذاته لا من درجة نجاحه أو إخفاقه السياسي، هو تعبير عن أفق وجودي لحقيقة ومعنى أن تكون كائناً إنسانياً،  تطلعٌ وجِلٌ إلى تاريخ جديد وشرط إنساني مختلف، إظهار حقيقة واقع مزيف وكشف باطنه المتناقض وتعرية ظاهره الملفق ونعيمه المُدلَّس.

هذه الثورة،  لا تتحمل مسؤلية الإخفاق في تحقيق غرضها السلمي والديمقراطي، فتأسيس واقع جديد لا تكفي فيه النوايا والرغبات وحتى إرادة الداخل الشعبية، بحكم كثافة العوامل الخارجية التي مرجعها حسابات المصالح والتوازنات لا القيم والحقوق،  وعمق الرواسب الثقافية والذهنيات الدينية والبنى الاجتماعية، التي تحذر جميعها من التغيير ويقلقها التجديد، وتنسجم من حيث منطقها وطبائعها مع الشخصنة والاستبداد. ما يعني أن الثورة كانت حائزة على إرادة التغيير الضرورية لكنها فاقدة للشروط الموضوعية الكافية التي كان أكثرها خارجاً عن السيطرة والتحكم.

عدم تحقيق الهدف لا يعني الفشل. فالثورة، كشفت عن المسافة البعيدة والهائلة بين المبتغى والمتحقق، بين ما يجب أن يكون وما يمكن أن يكون، بين الرغبة بالتغيير والقابلية الذاتية للتغيير.  تعرفت الثورة إلى موانعها الموضوعية وموانعها الذاتية ومعوقاتها الظاهرة والخفية.  عرفت ما ينقصها ليس فقط من عناصر قوة مادية، وإنما ما تحتاجه من منظومات فكرية وذهنيات ودرجة وعي ونمط علاقات اجتماعية مغايرة جميعها لما هو سائد وراسخ.  فالثورة لم يحاصرها استبداد وقمع النظام فحسب، بل كان الفراغ الذي أحدثه تفكك النظام فرصة ثمينة لاستبدادات وأشكال طغيان كامنة داخل مؤسسات المجتمع عمدت بعد اقتناص فرصتها إلى الظهور إلى الالتفاف على الثورة نفسها، ليكون لها الدور الأكبر في الانقضاض على الثورة بإسم الثورة. 

هذا لا يعني أن الثورة أنتجت نقائضها الذاتية، أو أنها كانت تحمل بذور فنائها وموتها من داخلها، إنما كانت ثورة مكشوفة الظهر، بعدما تبين عمق المأزق وغور الهاوية وركاكة الأرضية التي تقف عليها، وأن الاستبداد السياسي ليس سوى بعد واحد من أبعاد الاستبداد ووجوه الأزمة.  ما يعني أن طي صفحة الاستبداد عملية بنيوية وتكوينية ذات امتداد تاريخي  طويل لا تقتصر على إزاحة نظام والإتيان بنظام سياسي آخر، وإنما بإزالة مفاعيل ومولدات الاستبداد المنتشرة في أكثر مؤسسات المجتمع، والمنغرسة في الذاكرة وموجهات السلوك ومرجحات التفكير.

بهذا المعنى، كانت الثورة السورية بمثابة اختبار تاريخي ضروري ليس فقط لسوريا وإنما للمجال العربي بأسره.  فلقد عرَّفتنا على ما لم يكن بالإمكان التعرف إليه أو الكشف عنه لولاها، أزاحت الكثير من النرجسيات التي ظل العقل العربي أسيراً لها لما يزيد عن قرن،  أظهرت حجم السقوط الأخلاقي لدى النظام الإيراني (وأذرعه)، بالتالي حقيقة وأهداف حضوره في المنطقة، جراء تورطه بدماء السوريين، بيّنت النسبية المفرطة عند الغرب في التعامل الجدي مع القيم والحقوق الإنسانية، وأخيراً أثبتت عدم إمكان العبور إلى الديمقراطية الفعلية بأدوات وعدة وذاكرة وذهنية تناقض جميعها في منطقها ومبانيها مباديء الديمقراطية، إذ لا يمكن أن يكون هنالك ديمقراطية من دون ديمقراطيين.  

 لا يمكننا الحديث عن نهاية أو موت للثورة السورية، ولا أن نتحدث عن فشلها أو إخفاقها، بقدر ما نحن أمام مشهد من مسار طويل لم تنته فصوله بعد. صحيح أن الثورة لم تحقق أغراضها السلمية والديمقراطية، وأن كلفتها كانت باهظة، إلا أن التداعيات الموضوعية للثورة، المقصودة منها وغير المقصودة، قد أحدثت اهتزازات وارتجاجات مزلزلة لدى الدول المجاورة لسوريا والقريبة منها بالأخص إيران وتركيا ولبنان، وأنها غيرت تاريخ سوريا وراهنها بنحو جذري وفتحت مستقبلها على المجهول، بحيث بات من المؤكد أن سوريا لم تعد كما كانت من قبل ولن تعود.   

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها