الأحد 2023/03/12

آخر تحديث: 08:05 (بيروت)

الصين تغير قواعد اللعبة

الأحد 2023/03/12
الصين تغير قواعد اللعبة
increase حجم الخط decrease

  جاء خبر عودة العلاقات الإيرانية والسعودية مفاجئاً وربما صادماً للبعض ومن خارج سياق الاصطفافات المعهودة والتحالفات المتوقعة. بل أثار هذا الاتفاق كماً هائلاً من التساؤلات قد يفصح عنها مسار ونتائج المفاوضات بين الطرفين.  سواء أكان هذا الاتفاق جدياً أم لا ومهما كانت درجة جديته،  فقد أدخل هذا الاتفاق عناصر جديدة على واقع المنطقة ومحركات أحداثها ومساراتها، تستدعي بناء نماذج تحليل وأدوات توقع مختلفة عن النماذج والأدوات المتداولة. 

على المستوى السعودي-الإيراني، فنحن أمام بدايات التأسيس لمرحلة ما بعد الصراع والحروب بالوكالة بين البلدين. هي صراعات أنهكت الطرفين بالتأكيد واستنزفت قدراتهما، ولم يعد بإمكان أحد الطرفين إنجاز أكثر مما أنجز أو المضي أبعد مما حقق.  هو صراع وصل إلى حالة المراوحة ولم يعد بالإمكان أخذه إلى منطقة الحسم وكسر العظم، ومحصلته النهائية بعد تجميع الاختراقات والأهداف التي حققها كل طرف في مرمى الآخر، قريبة جداً من التعادل.  هو صراع خسر فيه الجميع ولم يربح فيه أحد.

المراوحة والتعادل بين الدولتين، ثبتا توازن الرعب بينهما ورسخا مرجعيتهما الإقليمية لأية تسويات وترتيبات سياسية في المنطقة، إضافة إنهما جعلا الدولتين أكثر تواضعاً بطموحاتهما وأقل اعتداداً بقدرات الحسم لديهما، بل باتا أكثر جهوزية وحاجة إلى الإنتقال من حال الصراع إلى حال التفاهم والحل في أكثر العناوين المتفجرة بينهما. هي وضعية فشلت الولايات المتحدة في التقاطها واستثمارها، ونجحت الصين فيهما بجدارة.   

هذا يدل على أن العنصر الأبرز واللاعب الجديد الذي حصد جوائز وثمار هذا الاتفاق هو الصين.  هي إطلالة أولى للصين من هذا النوع في الشرق الأوسط، مهدت له بتمدد اقتصادي هاديء لكن عميق وبنيوي، وجانبت عرض العضلات العسكري بل غيبته بالكامل.  أي بدأت الصين ببناء مصالح مشتركة مع كل من السعودية وإيران، وُصفت من الدولتين بأنها استراتيجية وتاريخية، ليكون حضور الصين السياسي بعدها قائماً على أرضية صلبة لا عرضية، وذات استمرارية زمنية ممتدة لا آنية وعابرة. 

دخلت الصين المنطقة من الباب الواسع: إيران والسعودية معاً، ومن المدخل الذي يليق بها كدولة عظمى.  هي لم تطل كشريك لطرف ضد طرف آخر، أو ضمن محور (ممانعة كما ظن البعض) ضد محور مضاد، بل كصانع سياسات للمنطقة، ومرجعية فض نزاعات وصراعات. بالتالي أثبتت أهلية وجدارة بأن تكون مفتاحاً مستقبلياً لأمن المنطقة ومصدراً لاستقرارها أو توترها. 

استفادت الصين من حجمها الاقتصادي الهائل الذي بحسب توقع الكثيرين يقترب من نقطة تخطيه لحجم الاقتصاد الأمريكي، ووظفت كفايتها التكنولوجية التي انتقلت من مرحلة المحاكاة إلى مرحلة الابتكار والمنافسة. بالتالي باتت الصين تحمل كل متطلبات النهوض والتطور التي تحتاجها الدول النامية في مواجهة وبناء مستقبلها، بكلفة مادية أقل وأثمان تبعية أدنى بكثير مما تقدمه الولايات المتحدة الأمريكية.  إضافة إلى تموضعها السياسي المستقل نسبياً عن تبعات الحرب الباردة ومحاورها، والمتحرر من صراع الأيديولوجيات والمنظومات والقيم. وهو ما منح الصين مرونة حراك وقدرة إقناع سهلة ونمط علاقات مفتوحة، بل جعلها أكثر براغماتية من باقي الدول بحكم غياب أية دوافع خلاصية للعالم أو مسبقات قيمية ومسلمات حقوقية.  فالصيني لا يضع قيمه وأفكاره على الطاولة ليبشر بها ويشرطها عليك، ولا يهمه أن تصير أو تكون مثله، ولا يطلب منك التزامات وانحيازات سياسية، ولا يسعى إلى بناء محاور، بل يكتفي بإقناعك بما يمكنه أن يقدم لك شيئاً بناءً وناجحاً.     

دخلت الصين من الزاوية التي فشلت فيها الولايات المتحدة وروسيا معاً. فبعدما تخلت روسيا عن مهمة تصويب مسار التاريخ البشري وفق التأويل الماركسي، وبعد تراجعها التقني والعلمي وترهل اقتصادها، لم يبق لديها سوى ترسانة نووية يضمن حماية أمنها الذاتي، لكن لم يعد لديها شيئاً جديداً أو مفيداً تقدمه لدول المنطقة، بل بات حضورها في المنطقة يشبه حضور الميليشيات والتنظيمات الأصولية مثلما هو الحال في سوريا والسودان وتشاد. أما الولايات المتحدة، ورغم كفايتها الاقتصادية واقتدارها التكتولوجي، إلا أن انحيازها غير المشروط وغير المسوغ لإسرائيل، جعلها في موضع المتهم والمشكوك بنواياه من الطرف العربي.  كما إن حدة الصراع بين الجمهوريين والديمقراطيين داخل نظام أميركا السياسي، جعل سياساتها الخارجية فضلا عن صناعة القرار في الداخل الأمريكي، عملية مرتبكة ومترددة ومتقلبة بل ومتناقضة في كثير من الأحيان.  ما أضعف الثقة بصدقيتها لدى حلفائها القريبين منها، وبقدرتها على حل الملفات العالقة، بخاصة الملف الفلسطيني-الإسرائيلي.

إعلان الاتفاق مجرد بداية، لكنها بداية موفقة لصالح الصين، جاء ليسد الفراغ الهائل الذي تتركه الولايات المتحدة ولا تعرف كيف تملؤه أو تعالجه.  هو لا يعني تحولات جذرية في المشهد وإنما مؤشر على تغير قواعد اللعبة.  




increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها