الإثنين 2023/02/06

آخر تحديث: 07:28 (بيروت)

إيران الثورة وطوبى النقائض

الإثنين 2023/02/06
إيران الثورة وطوبى النقائض
increase حجم الخط decrease

استقبل الكثيرون من مفكري ومناضلي العالم، بخاصة ما بعد الحداثويين، انتصارَ الثورة في إيران 1979 بتفاؤل وحفاوة كبيرين.  حدثٌ ولَّد شعوراً عند هؤلاء بأن روحاً جديدة تنبثق وعمقاً إنسانياً آخر يتفتح سيعيدان التوازن إلى العالم الحديث الذي فقد فيه الإنسان قدرة المبادرة ولم يعد سيد نفسه، بعد أن هيمنت التقنية الحسابیة على الفكر والسلوك، ووقع في قبضة شبكات تحكم وقوى إنتاج ووتيرة استهلاك سريعة الإيقاع والتحول تتجاوز قدرته على استيعابها أو إمكانية مقاومة سيطرتها على مجريات حياته.  

كان لرمزية الخميني وهو جالس على الأرض في إحدى ضواحي باريس بما يشبه جلوس الأنبياء والأولياء المصطفين، أثر كبير في لفت إنتباه العالم، بخاصة وأنه جاء في أزمنة استياء ضد واقع عالمي مترد ومضطرب.  وكان لعودته الظافرة إلى طهران ، بوقعها وصداها في النفوس، ما يشبه فتح النبي لمكة واقتحام محمد الفاتح للقسطنطينية وتحرير صلاح الدين للقدس. بل رأى فيها البعض الوجه المقابل للثورة الفرنسية، التي راعت الظاهر الإنساني في بعديه الفرداني والاجتماعي، لكنها أغفلت باطنه الروحي وعطلت خياله وفصلته عن الآلهة والأنبياء، واستبدلت حياة الآخرة بحتميات تاريخانية.

هذه الثورة، رأى فيها بعض المستائين من الحداثة الغربية أمثال ميشال فوكو، كسراً للمركزية الإوروبية بعد تحول حداثتها بنظره إلى أداة مراقبة وضبط وتطويع لا أداة تحرر وسيادة ذاتية. ثورة  وجد فيها فوكو  وعوداً خلاصية في استلهام الفردوس الغيبي للتحقق في العالم الأرضي، وفي "تسييس الروحاني وروحنة السياسي"، وإحياءً للمأساة الإغريقية المفعمة بالنشوة والافتتان الجواني، بل وصف الخميني بأنه شخصية أسطورية وبؤرة إرادة كلية.

كذلك افتتن بهذه الثورة العديد من مثقفي العرب، وفي مقدمهم فهمي هويدي الذي رأى، في كتابه "إيران من الداخل"، أن الثورة الخمينية، إحياء للمشروع الإسلامي بصيغته الشاملة والحضارية، ووصف الخميني  "كأنه رصاصة انطلقت من القرن السابع عشر الميلادي لتستقر في قلب القرن العشرين". كذلك كان لمحمد حسنين هيكل الدور الإعلامي البارز في تقديم الثورة الخمينية، في كتابه "مدافع آية الله"، واعتبرها تتويجاً أقصى لاندفاع الشعب الإيراني التاريخي منذ ثورة مصدِّق إلى التحرر والاستقلال ونموذجا يقتدى في المجال العربي.  ولا ننسى انبهار مثقفي اليسار العربي بهذه الثورة، التي وجدوا فيها بداية اندحار المشروع الغربي-الاستعماري، وصعود الشعوب المقهورة، بل وجد البعض في مضمونها الأيديولوجي الجديد، بديلاً عن المشروع الماركسي، ما دفع العديد منهم إلى إعتناق الإسلام الشيعي.

كانت شعارات الثورة الظافرة عامة ومطلقة، يسودها إبهام مقصود، لكن صداها العالمي كان كبيراً. مثل شعارات: الحرية والرفاه، نصرة مستضعفي العالم، لا شرقية ولا غربية جمهورية إسلامية، ومحاربة الشيطان الأكبر. هي شعارات تستهوي المستائين من سير الحداثة الغربية وتعثراتها في الداخل الغربي، وتستقطب وتعبىء الناقمين عليها والمتضررين منها في الخارج.  شعارات تشي بأن مساراً جديداً قد دشن، وأن قوة مقتحمة للإسلام قد انطلقت، بعد أن طمس جوهره وحيويته اللبس والتردد والتبعية الخارجية. فالإسلام بحسب الخميني ذو كفاية ذاتية لا يحتاج إلى صفات نستعيرها من الخارج، لأن "الإسلام هو كل شيء ويعني كل شيء" .

ما أن بدأت معالم ما بعد الثورة تتضح، أي مباديء ومنطلقات وممارسات النظام السياسي الجديد في إيران، حتى حدث َصمتٌ مفاجيء عند جميع الذين استبشروا بالثورة وهللوا لقائدها. صمت ينم عن ذهول وصدمة: بمضمون غير متوقع ومفاجئ، بتخمة ادعاءات لا يسندها واقع أو شاهد، بخطاب فكري غرضه التعبئة والتحشيد لا الفهم والتنظير، بماضٍ معتل يُزج به في حاضر مأزوم، بسلطة تستهدف أسر الباطن وخنق توتراته، بسلوك عقاب وانتقام دمويين يشبعان فائض السيطرة وشبق الهيمنة. تبين لهؤلاء أنهم وقعوا في فخ وعود وتطلعات لا تشبه الواقع الذي تأسس بعد الثورة بشيء، فآثروا السكوت والاختفاء من المشهد بهدوء.

لم تكن ثورة الخميني تتعلق بتصويب مسار حضاري للعالم، أو اقتراح حل خلاصي للبشر. هي في ظاهرها قضية محاربة استبداد داخل إيران، لكنها في عمقها استحضار وإعادة الاعتبار لبنى تقليدية فاقدة الصلاحية في زماننا، ونزعة إحيائية للدين خالية من أي مجهود فكري إزاء بناه الفكرية الموروثة، ومشكلة منظومة تقليدية فشلت في استيعاب ما أنجزته الحداثة وتشخيص ما أخفقت فيه.  فكان غاية ما فعلته أنها جمعت بين  نقيضين: القطيعة مع الحداثة الغربية وادعاء الأهلية بالحلول محلها من جهة، وبين مماثلة مفاهيمها بمفاهيم هذه الحداثة من جهة أخرى.

تبين أن الذي ناهضته ثورة الخميني لم يكن استبداد الشاه بحكم أن ولاية الفقيه تناظر الحكم المطلق بل تتجاوزه إلى مبدأ التفويض الإلهي، وإنما ناهضت التحديث الجاري في إيران بوتيرة سريعة، وتقلص مساحة الدين في الحياة العامة والسلوكيات.  ولم يكن استدعاء هذه الثورة للإسلام بفعل اجتهاد معاصر أو ورشة تشخص ما لدى الإسلام أن يقوله بخصوص هذا الزمن، بل كان استحضاراً حرفياً لبنية تقليدية محمّلة بافتراضات وادعاءات واستنباطات لم يختبر التاريخ صلاحيتها أو صحتها أو حتى إمكانية تطبيقها في دائرة الحياة العامة والمجال العمومي.  هذا جعل الثورة تقوم على حدين: حد القطيعة مع منظومات الفكر والحكم وأنماط الحياة القائمة في العالم من جهة، وحد أدلجة المأثور الديني بحسب تعبير شايغان ورفع تاريخيته وبشريته إلى مصاف المقدس الذي لا يمس من جهة أخرى.     

 هو مسار أوقع أصحابه في طوبى فاقدة أي أساس نظري أو مقترح ابتكاري لحاجات المجتمع ومشكلاته. طوبى تغلق على نفسها بسلسلة قطائع مع العالم المحيط، وتتشدد في الإلتزام بحرفية الموروث وقدسيته وتجرم النقد حول صلاحيته المعاصرة. طوبى أخذت تناقضاتها الذاتية تتفجر في الداخل الإيراني، فباتت تبحث لنفسها عن أمكنة بعيدة خارج ساحتها لتثبت صدقيتها وتؤكد تمايزها وفرادتها.

 

   

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها