الأحد 2023/01/29

آخر تحديث: 08:10 (بيروت)

إنتحار طوعي للدولة

الأحد 2023/01/29
إنتحار طوعي للدولة
increase حجم الخط decrease

اكتمل عقد الانقسام العمودي داخل الدولة، بعدما صار مكتملاً على المستوى المجتمعي. فبعد أن كانت الدولة هدفاً للتنافس والمواجهة بغرض الإمساك بقرارها والتحكم بمؤسساتها الرئيسية.  أصبحت الدولة نفسها ساحة المواجهة وأرضها، بعدما انقسمت على نفسها داخل مؤسساتها الدستورية الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية.  فبتنا أمام دولة ضد دولة أخرى، وسلطة ضد سلطة أخرى، وشرعية في مواجهة شرعية مضادة. أي دولة تقتل نفسها بأسلحتها وأدواتها، وتمارس انتحاراً طوعياً. 

 الموت والنهاية والانهيار كلمات ذات حقيقة عدمية لا وجودية، هي تعبير عن توقف شيء عن الحراك والنشاط. الأمر نفسه ينطبق على الدولة، التي لا تموت أو تنهار لوحدها، بل يتحقق ذلك حين تتعطل عناصرها وتتوقف أجهزتها عن العمل.  فما حصل ويحصل الآن هو وضعية هلاك لم تأت من فراغ، وإنما هي ثمرة طبيعية لمسار طويل من التفكيك والتعطيل، الإبهام والتلبيس، التجويف والتسويف، الشخصنة وسوء الاستعمال، الإنتهاك والطعن، بكل ما تقوم عليه الدولة من معنى ومفهوم وتفسير وعناصر وفاعلية وحضور فعلي.

  هذا الأمر أحدث نسفاً لبديهيات الحكم السياسي وصناعة القرار وإدارة الاختلاف، ما كان بإمكان الدولة نفسها أن تصمد معه أو تستمر.  بخاصة بعد تحول الدولة من كائن سيد إلى مسود، وبعد أن فقد الدستور دلالته الذاتية بعدما بات  أسير تأويلات مزاجية ومتقلبة، وأُسقط عن القضاء خاصيته الجوهرية في تحقيق العدالة بعدما استحالت غيبا يوحى وسراً يملى.   

هي وضعية نقلت الأزمة اللبنانية من مرحلة سوء أداء الدولة وتخبطها في إدارة البلد ومعالجة مشاكلها، أي أزمة كفاءة الدولة، إلى مستوى وجودي وكياني يطاول أصل فكرة الدولة وبقائها. بالتالي انتقل السؤال من كيف نصلح الدولة ونصوب أدائها؟ إلى الأسئلة التأسيسية حول معنى الدولة وجدوى وجودها وأساس شرعيتها ومصدر سلطة أمرها.

ما نحن فيه ذاهب باتجاه واحد (irreversable) لا رحعة فيه إلى الوراء.  فانقسام الدولة على نفسها، لا يعني قابلية أقسامها على الإلتئام والتركيب لبعثها من جديد, فالدولة كائن واحد وحقيقة بسيطة، وانقسامها على نفسها يعني دخولاً في طور عيش مختلف، ساحة حرب مفتوحة، عيش الكل ضد الكل، نموذج فشل كلي غير مسبوق سيكون للبنانيين السبق في إبداعه وابتكاره. 

  رغم ذلك، فالمشهد السياسي ما يزال يكرر نفسه بصورته الرتيبة، ويحتفظ بكامل اصطفافاته وحيويته، توقعاته وطموحاته، تفاؤلاته وانتظاراته. فالسياسيون يجيدون إظهار الأشياء على غير حقيقتها، بتضخيم بعضها والتقليل من جدية وخطورة بعضها الآخر. أما اللبنانيون فيتقنون التظاهر (Pretending) والتوهم بأن الأمور ستتعافى من تلقاء ذاتها وأنها مسألة وقت وصفاء نوايا وتنازلات متبادلة، ولا يترددون في إرجاء الأشياء وتأجيلها وتجنب مواجهتها والاشتباك معها.  هي مسلكيات أحدثت أعطاباً في قدرة المجتمع على تحسس مشكلاته وتنشيط قواه، ودفعت الحياة العامة إلى الانقسام والتشظي، وخلقت في المزاج اللبناني ميلاً إلى التردد والانكفاء واللامبالاة والتكيف الخانع.

إزاء ذلك، تبدو خيارات لبنان الداخلية في الخروج من حال الانسداد الحاصل ضئيلة، بحكم أن تكوين الداخل وقواعد توزيع القوة فيه، قادران فقط على إدارة الأزمة لا حلها، وعلى إعادة إنتاجها وبعثها من جديد فيما لو تعطلت وتفككت بقدرة قادر. فالأزمات باتت سمة ذاتية لأي مشهد سياسي وقوتاً لأية شعبية وتعبئة وضرورة لأي تضامن أو حلف.

قد يستسيغ البعض تدويل المسألة اللبنانية، وقد يرى آخرون حاجة إلى وصاية دولية مؤكدة. لكن هذا  لا يسد علينا الأمل بإحياء الدولة فحسب، بل يجعل الكيان اللبناني نفسه مرآة لأيديولوجيات واستراتيجيات وثقافات ليست منه، فلا يعود يشبه نفسه أو حقيقته بشيء.  فالخارج ليس جمعيات خيرية وعطاءات مجانية. 

لبنان في زمن انتظار مؤلم وقاس. فحاضره يأكل نفسه، وعودته باتت تطلعاً مستقبلياً خالصاً، توقعاً بأن يجود عليه التاريخ شروط واقع جديد، وأن تهبه الارحام عزائم وإرادات لم يعهد مثلها.   








 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها