الأربعاء 2022/09/21

آخر تحديث: 07:39 (بيروت)

مأساة محمد صلاح كفخر للعرب

الأربعاء 2022/09/21
مأساة محمد صلاح كفخر للعرب
increase حجم الخط decrease

كل ما فعله محمد صلاح، حتى قامت القيامة العربية عليه، هو أنه نعى الملكة إليزابيث الثانية. لاعب كرة القدم المصري نجم عالمي، يعيش في بريطانيا. يتنفس هواءها ويشرب من مائها ويعشقه حد الجنون جمهور ليفربول خاصة، وجماهير حول الكوكب برمته عامة. لكن محمد صلاح عند العرب بطل من نوع آخر. تراجيدي. خليط من ثلاثة، مصري وعربي ومسلم. صفات تتخطى نجوميته كلاعب إلى عظمته كفاتح للغرب، كرمز للأمة. شخصية آتية من التراث العظيم بسيفها وفرسها لتعيد المجد الغابر للإسلام والمسلمين. الساموري المسلم الأخير في حرب طواحين الهواء. كل مرة يرمش عليه أن يفكر بأن أمة برمتها تراقبه. تحصي عليه أنفاسه. تحفظ له زلاته المميتة. 
محمد صلاح محمل بإرث أكبر منه، وبلقب أثقل من كتفيه. أي لاعب آخر يمكنه أن يعزي بالملكة، لكن "فخر العرب" لا يمكنه الوقوع بسهولة في خطأ كهذا. هو طارق بن زياد بعث من جديد. كيف يعزي الفارس برأس المملكة التي شنت العدوان الثلاثي في الخمسينيات على مصر؟ ليس أن مصر نالت استقلالها من بريطانيا الأسبوع الفائت، وليس أن طائرات البلدين لا تزال تتقاتل في سماء قناة السويس الآن. لا. مع ذلك، فتغريدة من صلاح عن الملكة ترقى بغتة إلى ما يشبه الخيانة العظمى. أل "يا للهول". رجل يحمل لقب فخر العرب ينبغي عليه، في أوقات فراغه بين التدريب واللعب ويوميات حياته، أن يتفرغ لنبش تاريخ الامبراطورية وفضحها وتدميرها في عقر دارها، وأن يكون مبشراً بالإسلام في أرض الكفار، وأن يثبت كل صباح حبه وولعه اللانهائي بدينه. كأنه في مهمة رسمية كلفه بها شخص مجهول الجنس والاسم والعمر والإقامة والمهنة والحاضر والمستقبل، كل أهميته تكمن في قدرته على كتابة تعليق ونشره في السوشال ميديا.
هذا المجهول حين يتكرر في نسخات بالملايين، يصير محرجاً. يصير الصورة التي لا يريدها العرب والمسلمون لا أمام الغرب بل أمام أنفسهم قبالة المرآة. ملايين المجهولين هؤلاء يصيرون أشبه بجيش وظيفته فقط تقويم أخلاق محمد صلاح ومنعه على مدار الساعة من الانزلاق أخلاقياً ودينياً وعروبياً. إذا تصور محمد صلاح عاري الصدر هرعوا لتذكيره بالسنتمترات المحددة للمسافة الشرعية لعورة الرجل التي وجب حجبها عن العيون. إذا ارتدى سلسلة فجعوا لتشبهه بالنساء. إذا وقف إلى جانب امرأة في صورة أصيب حياءهم في مقتل. إذا وضع في بيته شجرة عيد الميلاد وتصور بقربها تزلزل العرش وأتت الساعة.
اللاعب لا يكترث على ما يبدو. مصرٌ على أفعاله الشنيعة، وأسوة بكل النجوم أمثاله، يستخدم السوشال ميديا باحتراف للتسويق لاسمه كماركة تجارية ناجحة. لم يطرح نفسه لا داعية ولا صلاح الدين الأيوبي ولا حتى يد الله الأرجنتينية التي سجلت أغلى هدف في مرمى السيدة إليزابيث. عشاقه المسلمون والعرب، من جهتهم، لم ينتبهوا إلى أن محمد صلاح تخطاهم منذ زمن بعيد، وأنه يعيش الآن في كوكب آخر من الأفكار والأحلام والطموحات، على أنه يستحق الإشادة لطول صبره عليهم. فهم، بالتحديد، أشبه ببخيل أعطاه هدية بلا قيمة، ولا يريدها، وراح يزعجه بالسؤال عنها طوال الوقت، ويشعره بأنه مذنب لأنه لم يصن هذه الهدية-اللقب. فخر العرب. هم نصبوه فخراً لهم، من دون سؤاله، وهم قرروا أن يملوا عليه تصرفاته للحفاظ على سمعة لقب لم يسع أصلاً إليه بقدر سعيه الحثيث لنيل ألقاب من نوع آخر، وأحذية وكرات ذهبية وخلافها مما يركض لاعب كرة القدم طوال حياته المهنية القصيرة نسبياً للحصول عليها. يخنقونه بالوصاية التي تبرعوا بها عليه غضباً عنه، لأنه مسلم مصري عربي.  
هؤلاء المصابون بخيبة أمل متصلة من محمد صلاح يلعبون دور أب يرجع الفضل لنفسه في نجاح ابنه، مع أن صلاح هو تعريف الابن الذي شق طريقه بموهبته وجهده. أب واحد يبالغ بالاهتمام بولده معضلة، فكيف بملايين الآباء، وبالقوة؟ هؤلاء لهم مونة عميقة على اللاعب مع أنهم، مثلاً، لم يفاوضوا النادي الإنكليزي ليضمه إلى صفوفه، ولا وضعوا روتين غذائه وتدريبه ولا حتى نصحوه بكيفية تحسين تسديداته. ليس لهم أي فضل عليه يبرر سبب تذمرهم الدائم منه ومن أسلوب حياته. ولو أن حظه كان سيئاً بما يكفي لأن يبقى في الدوري المصري، لارتاح من هذا "الأخ الأكبر" الذي ليس له الآن إلا محمد صلاح ليفسد عليه حياته وبدافع الحب. 
في المقابل، لو أن محمد صلاح بقي لاعباً محلياً، لما وجد هؤلاء من يعطونه لقب "فخر العرب" ثم يسحبونه منه ثلاث مرات يومياً. لما وجدوا فرصة لتعميم أفكارهم المتطرفة أو نسخ ولصق الحِكم الرديئة في التعليقات على تغريداته وصوره. لما وجدوا من يلقون عليه مواعظهم الممجوجة في الدين يحملونها كالأثقال. ولما تأسفوا، مرة بعد مرة، لأنه "تغيّر".
ليس نقاشاً إن كان الغيارى على دين صلاح يلتزمون دينهم في يومياتهم. حجتهم معهم. هم مجهولون. ليسوا محمد صلاح. ليسوا رمزاً. لكن مو، في المقابل، ليس رمزاً بدوره. ليس سفير الإسلام والمسلمين. إنه لاعب كرة قدم آت من بيئة محافظة على ما كان يبدو عليه، وفتح لنفسه أبواب الثراء والنجومية. ذاق حياة يعترف مؤنبوه أنها حلوة، لكن ليس في العلن، ففي العلن هم جحافل أمر بالمعروف ونهي عن المنكر. 
تغيّر محمد صلاح؟ طبعاً تغيّر. لن يجلس بانتظار أن يرضوا عنه. وهم لن يرضوا أصلاً. لن يرضوا عنه إلا إذا عاد مجهولاً منهم، ينسخ ويلصق مثلهم، يترقب معهم نجم كرة قدم مصرياً عالمياً كي ينعى ملكة، فينفعل من على كنبته ويعلّق: "الرحمة لا تجوز على غير المسلم يا محمد. تغيّرت، للأسف يا محمد. لم تعد فخر العرب بعد الآن يا محمد." ثم، بعد نشر تعليقه، ينام مطمئناً إلى أن الأرض والسماء والأمة، كلها راضية عن انجازه العظيم.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها