الأحد 2022/11/20

آخر تحديث: 08:20 (بيروت)

حزب الله واللعب بين المعلن والمضمر

الأحد 2022/11/20
حزب الله واللعب بين المعلن والمضمر
increase حجم الخط decrease

السؤال الذي يسبق الكلام عن "تلبنن" حزب الله الفعلي، أي تقيده والتزامه بأطر وقواعد وثقافة محلية، هو: أيُّ لبنانٍ يريد حزب الله أن يتلبنن داخله؟ فتقلص نشاطه الخارجي وتكيفه مع قواعد لعبة سياسية داخلية وحتى إقليمية، لا يكفيان مؤونة الاستنتاج بأن حزب الله تخلى عن وضعية وتكوين مناقضين لشروط التأطر الداخلي والإلتزام الحصري بقواعد شرعية سياسية محلية والخضوع لسقف أعلى يقيد سلوكه ويضبطه.

مر حزب الله بأحوال أمنية وسياسية متعددة ومتقلبة ، راكم معها خبرة سياسية واكتسب حنكة أداء، مكنته مع الزمن من اكتشاف: آفات النظام اللبناني، فراغات النصوص الدستورية وثغراتها، انسدادات اللعبة السياسية، تعقيدات صناعة القرار. إضافة إلى التعرف إلى تناقضات المجتمع اللبناني بمكوناته المتعددة، سمات المزاج اللبناني، عيوب وفضائل الشخصية اللبنانية.  هي أمور وفرت لحزب الله مساحة ضبابية شاسعة، وهامش مناورة عريض، وقدرة التفاف على كل ما هو ثابت وضروري وبديهي، ومُكنة جعل الغريب طبيعياً، والشاذ أصيلاً، والمربِك المأزوم منطقياً.

هي عوامل ساعدت حزب الله على ابتكار منطقة غموض مقصودة في خطابه وسلوكه تجاه معنى الدولة وحقيقة الوطن وطبيعة الثقافة وهوية المجتمع. هو غموض يخدم الهروب من الإجابة الصريحة والمباشرة، يوسع مساحة اللاتحديد، يوفر قابلية قوية في كل الأمور العامة بأن تُؤوَّل وتُفسَّر على أكثر من وجه ومعنى.  بل إن الغموض يوفر غطاء للجمع بين الإثبات والنفي، التوفيق بين الشيء ونقيضه، إظهار الأشياء على غير حقيقتها وتكوينها، تقنيع الباطن بغير مادته وسنخه، إبقاء الأمور في دائرة الالتباس والتحديد المشوش والمعنى المرجأ والدلالة الرخوة والحقيقة النسبية والمفهوم المفكك.

هي صورة تعكس منطق خطاب حزب الله وخلفية سلوكه. ليكون بالإمكان خلق واقع غريب ومربك ومأزوم، بل مدمر في أكثر صوره، وإظهاره أمراً اعتياداً وطبيعياً. من قبيل: الجمع بين الدولة وما ينقض حقيقتها، أي دولة فاقدة السيادة لا على أرضها وشعبها بل على نفسها،  اعتبار الفراغ الرئاسي مهارة سياسية، التلويح بالسلاح في الداخل وحتى استعماله وتصوير ذلك حقاً مشروعاً مكتسباً، الادعاء بأن الولاء لسلطة الولي الفقيه مسألة معتقد ديني لا ازدواجية في الانتماء والهوية، التغني بإنجازات سطحية وانتصارات وهمية للتغطية على الكارثة الاقتصادية ومؤشرات انهيار الكيان ، التمسك بتأويلات جزئية وفوضوية للدستور على حساب روحيته ومقصده مع إشاعة ذلك نبوغاً قانونياً، وإنشاء قواعد لعبة رديفة ومباديء مشروعية بديلة.

هو أداء كان بإمكان حزب الله الاستمرار به لو كان على هامش السلطة، وبعيداً عن عملية صناعة القرار، بحكم عزلة الهامش وضآلة أثره على المركز السياسي.  أما وقد أصبح الحزب ركن السلطة وأساس تشكل هيئاتها ومؤسساتها، فإن بقاء الغموض المقصود والالتباس المتعمد في كليات السياسة ومسائل الحكم والاجتماع وحقيقة المفاهيم الملاصقة لها والمتفرعة عنها، من قبيل مفاهيم: الدولة والشعب والشرعية والولاء والهوية والسيادة والوطن والأمة والطائفية والديمقراطية، فضلا عن حقيقة الكيان اللبناني وثقافته الخاصة وخصوصيته مكوناته. هذا الغموض والالتباس سيتحولان إلى عوامل مدمرة للكيان لصعوبة بقاءه في المنطقة الرمادية والملتبسة والرخوة،  التي تُشتت العصب الجامع وتجعل انتظام المجتمع وتماسكه أمراً مستحيلاً، وسيكونان أيضاً، أسباباً مفجرة للتناقضات التي برع حزب الله في الجميع بينها، وعلة مقوضة لمنجزاته ومكتسباته، بحكم التلازم بين بقاء المكسب وانتعاش الحياة العامة، بين استثمار المنجز وحيوية الدولة.

مر حزب الله بأطوار ومراحل عديدة تركت جميعها أثراً على أدائه وتكتيكاته واستراتيجياته، لكنها لم تحدث الأثر المطلوب على تكوينه وبنيته وذهنيته. فحزب الله الذي بدأ وتشكل ونما خارج الدولة وعلى هامش السياسية، وبمنطلقات عقائدية لا تقيم وزناً للتاريخ والجغرافيا، ولا للحدود الإقليمية أو الثقافة المحلية أو الهويات الخاصة. إذا بالسياسة تستدرج هذا الحزب إلى معاقلها وتدخله السلطة في حبائل التنافس عليها.  ورغم ذلك لم يحدث هذا التغير والانتقال تعديلاً في مبانيه ومسلماته ومنطلقات الشرعية السياسية عنده. ما خلق داخل الحزب تباعداً وتنافراً، بين واقعية سياسية بات الحزب جزء منها ومسؤولا عنها من جهة، وبين منطلقات اعتقادية ونرجسية ذاتية وثقافة داخلية وولاءات منفصمة جميعها عن الواقع من جهة أخرى.  بالتالي بقي سؤال التلبنن داخل الحزب منحصراً بـــ: كيف ننتج لبناناً على قياس هذه الثنائية الصعبة، لا كيف تتسرب الفكرة اللبنانية إلى داخل الذات وباطنها العميق.     

هي ثنائية لا يفيدها التأجيل أو الغموض المتعمد ، ولا يخفف من وقع ضررها إتقان لعبة التلبيس الممنهج بين الظاهر والباطن، الخفاء والظهور، المعلن والمضمر، بل تستدعي جرأة النظر الشفاف في المرآة، أي ورشة نقد ذاتي وإرادة تحول جدية، تؤسس لقابلية تجاوز وقدرة انتقال نوعي، تردم الفجوة بين سلوك حزب الله وذهنيته، ثوابته ومتغيراته، واقعه وحقيقته، محدوديته ونرجسيته، واقعيته السياسية وطوباويته الداخلية، براغماتيته الخارجية وتضخمه الأيديولوجي.

هي ورشة لم يأت زمانها، ولم تتأمن رموزها القيادية ونخبها الفكرية بعد، بحكم أن حاضر الحزب محكوم لجيل قيادي ما يزال يراهن على تلك الثنائية المفارقة، ويرى فيها سر قوة الحزب وتمايزه.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها