الجمعة 2020/06/05

آخر تحديث: 06:42 (بيروت)

أميركا في لحظات تحولها

الجمعة 2020/06/05
أميركا في لحظات تحولها
increase حجم الخط decrease
ما نشهده في الولايات المتحدة الأمريكية اليوم، استحقاق حقوقي لم يعد يحتمل التأجيل، وتناقضات مجتمع سياسي  أخذت تطفو على السطح لم تعد آليات القانون وأدوات إكراهه بقادرة على لجمه أو تعطيله أو حتى تأجيله. هو مشهد يظهر عدم صلاحية نقطة التسوية أو التوازن بين القوى وشبكة المصالح والتضامنات المجتمعية المتعددة والجماعات الحقوقية والمجتمعات الإثنية والعرقية.

لم يعد مقتل جورج فلويد ذي الأصول الأفريقية بالطريقة الوحشية التي شاهدها الجميع، مشكلة مدينة أو ولاية أو مجرد جريمة ارتكبها شخص، بل قضية حقوقية عابرة للمدن والولايات لتمس عمق التساكن بين مكونات المجتمع الأمريكي، والجدية الكافية للمؤسسة السياسية في تجسيد منظومة الحقوق الطبيعية غير القابلة للانتزاع التي أكد عليها الآباء المؤسسون في الدستور. بات كل أمريكي ذي أصول أفريقية (African American) يجد نفسه معرضاً لنفس شروط ملابسات القتل، ما يجعل منظومة العدالة والأمن الحاليين مصدر تهديد للحياة والوجود، ومحلاً للشك والمساءلة العامين.

مشهد القتل هذا تكرر بكثرة خلال الأعوام الماضية، وكان في كل مرة يثير أسئلة متعددة ومطالبات ملحة بمراجعة جهاز العدالة ومنظومة السلطة نفسها في طرق ممارستها ومبادئ توزيعها وعدالة منافعها.  في حين كانت السلطة بمستوياتها ودوائرها المتعددة تصر على اعتباره مجرد مخالفة شخصية لعناصر غير منضبطة من شرطة البيض المحليين. وهو تجاذب وخلاف يعكس في العمق التباين في تجسيد منظومة الحقوق التي لطالما تباهي الأمريكيون بفرادتها في بلدهم.

هو جدل قديم بين وجهة تؤسس ميزان السلطة على قاعدة سيادة العرق الأبيض (White Supremacy) بحكم كونه المؤسس الأول للكيان، وعلى مبدأ تحكمه في مفاصل القوة والثروة والمنافع العامة من دون أن يستدعي ذلك حرمان الإثنيات والأعراق الأخرى، بقدر ما يستدعي الحؤول دون تحولهم إلى قوى منافسة ومزاحمة تدفع نحو تغيير موازين القوة وقواعد توزيع الثروات.  وبين وجهة أخرى ترى حلول أوان الإنزياح نحو معادلة المساواة الفعلية بين المواطنين، التي لا تكتفي بالمساواة أمام القانون، بل أيضاً تتطلب توفير  شروط اجتماعية واقتصادية تهيء مطلق فرد لتحقيق ذاته وممارسة حقوقه السياسية بفاعلية.  وهو ما أطلق عليه مارشال المواطنية الاجتماعية، أي مواطنية التمكين والفرص الفعلية التي يوفرها المجتمع، والتي يفترض بها أن تسبق المواطنة السياسية  والمواطنة القانونية.

عندما زار ألكسي دي توكفيل أميركا في أواخر القرن التاسع عشر حذر من أن الديمقراطية بإجراءاتها الانتخابية قابلة أن تفرز استبداداً جديداً يختلف عن الإستبداد الملكي السابق،   وهو تحكم الأغلبية بالأكثرية. إلا أنه وجد بالمقابل أن المجتمع الأمريكي شكل لنفسه حصانة ضد هذا الاستبداد وضد تضخم الدولة نفسها، وهي قوة المجتمع المدني، أي المجتمع القادر على تنظيم شؤونه بطريقة ديمقراطية وحرة، بمعزل عن تدخل الدولة وفائض قوتها. ما جعل توكفيل يؤكد على أن شرط تحقق الديمقراطية وفعليتها هو أن تصبح صفة وسلوكاً مجتمعيين قبل أن تكون صفة لنظام الحكم.  وهي الخاصية التي وجد أن المجتمع الأمريكي يتفرد بها عن أوروبا بأسرها ويتفوق بها حينها على الثورة الفرنسية نفسها، حين وجد أن الديمقراطية في أميركا لم تقتصر على سورة الحكم، بل باتت أطر علاقات ونمط حياة وطرق سلوك تمارس بشكل يومي. وهو السبب الذي جعل البيئة الأمريكية تستغني عن خيار العنف لإحداث أي تغيير أو تحول سياسي.

الصفة التي اكتشفها توكفيل في المجتمع الأمريكي، لم تتغير رغم تقلب موازين القوى في الداخل الأمريكي على مر السنين، حيث احتفظ هذا المجتمع لنفسه بخاصيتين: أولاهما أن الكلمة الفصل بقيت للمجتمع في قدرته على انتزاع المبادرة من القوى السياسية وشبكات المصالح، وفي تمكنه عبر دينامية ذاتية وقدرة تعبئة عامة من إحداث تحولات جذرية في بنية المنظومة السياسية وآليات صناعة القرار.  ثانيهما أن المجتمع احتفظ بمدنية هيئاته وتضامناته، ما حصّنه من الانجراف إلى حرب أهلية أو صراعات عرقية وإثنية. أي مجتمع يعرف كيف يولد تضامنات تتعالى على الخصوصيات العرقية والدينية، وكيف يحول الاحتجاج إلى مطلب عام لا يختص بجهة أو عرق أو دين، وكيف يمتص التناقضات عبر إجراء التعديل المؤسساتي اللازم لذلك، وإيجاد نقطة توازن جديدة لخريطة قوى جديدة أو مستجدة.  ما يدل على أن الديمقراطية سمة ثقافية راسخة للمجتمع، وأن المجتمع بتضامناته المدنية المتنوعة والمتعددة، هو الفاعل الأول داخل منظومة الحكم التي تنتفي بداخلها ثنائية الحاكم والمحكوم، أو الآمر والمطيع، ليكون الكل آمراً ومطيعاً لنفسه في آن.

لا نستخف أو نقلل هنا من مظلمة المكون الأمريكي ذي الأصول الأفريقية، إلا أن المسار الذي شقه مارتن لوثر كينغ منذ ستينيات القرن الماضي، حسم الجدل داخل هذا المكون، بأن السبيل الوحيد لنيل الحقوق كاملة وممارسة مواطنة فاعلة لا يكون إلا عبر الفعل المدني السلمي، ومن خلال مسار نضال طويل يحول حق المواطن ذي الأصول الأفريقية إلى قضية أخلاقية كلية، ومطلب وطني عام، ومشروع قوانين حقوقية بديلا عن التقوقع داخل مناحات وحملات استنهاض إثنية وعرقية.  وهو مسلك أخرج حقوق الاقليات من مشكلة عرق يعاني من ضيم عرق آخر، إلى التفكير بسيستام سياسي جامع أكثر عدالة ومساواة للجميع.

أهمية الحراك المدني الأمريكي الحالي، أنه مصوب باتجاه بنية الانتظام السياسي، والعمل على تحويله وتعديله من داخله لا الاتجاه إلى تقويضه وإنهائه. هو بذلك يحفظ الإرث التاريخي للنظام السياسي القائم ويبقي على أصوله الراسخة بحيث لا يقطع مع ماضيه بنحو مفاجيء وثوري، وفي الوقت نفسه يمنحه مرونة وليونة في تطوير وتعديل نفسه من الداخل، لتصبح العدالة أكثر إنصافاً، ويكون احترام الحقوق أكثر جدية وشمولية.

قوة أي نظام لا تكون بالتخلص من تناقضاته، فهذا سلوك قمعي وذهنية غلبة، بل تكون في إدارة هذه التناقضات عبر هندسة سياسية تحفظ للمجتمع تنوعه واختلافه وميوله المتعددة بل والمتناقضة، التي تبقى باستمرار سمة حيوية وطاقة تجاوز مستمر لكن داخل تأطير مؤسساتي وتعبير مدني.

ما نشهده اليوم مشهد مجتمعي يظهر قوة المجتمع المدني الأمريكي، الذي استطاع تحويل حادثة قتل ذات ظروف عارضة إلى قضية أخلاقية كلية ومطلب سياسي عام يدفعان باتجاه إحداث تغيير في بنية المنظومة السياسية بأسرها وتحول في قواعد وآليات ممارستها لحق الإكراه المشروع.  فلا تعود القضية قضية فرد قتل ظلماً أو قضية إنتقام وثأر وظلامات لجماعة أو جهة، بل قضية انتهاكٍ متكررٍ لمبدأ حقٍ عامٍ، وقضية شروط حياة ومجال عام أكثر إنصافاً وأمناً للجميع.  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها