السبت 2018/08/18

آخر تحديث: 20:34 (بيروت)

عندما يصير الفساد خلقاً إجتماعياً

السبت 2018/08/18
عندما يصير الفساد خلقاً إجتماعياً
increase حجم الخط decrease

عندما يحل الفساد في بلد عربي مثل لبنان أو العراق، فإنه لا يبقى على حاله البسيطة والعفوية والفردية، بل ينمو ويتطور ويرتقي مثل الكائنات الحية، ويتوسع ويصبح أكثر تعقيداً، ويتحول في مستويات متقدمة إلى مؤسسة ناظمة للحياة العامة ومحدد لقيم المجتمع وضابط لسلوكه، ليصير في مراحله العليا خلقاً اجتماعياً.

الفساد ظاهرة اجتماعية يقف ورائه فاعلون بشر، ما يعني أنه ظاهرة إنسانية قابلة للتطور والتغير والتحول، حيث يمكننا رصد مستويات ثلاثة في مسار ارتقائه وتحوله:

المستوى الأول وهو الأدنى، حين ينحصر وجود الفساد بوجود الفاسدين. أي يتخذ حالة فردية وشخصية متمثلة بحفنة من السياسيين أو المسؤولين الكبار في الدولة.  عندها يكون الفساد حالة بشرية طبيعية، ويكون التخلص منه بعزل بؤرة التلوث أو التخلص من الورم الموضعي لينجو منه باقي الجسم الرسمي الذي يدير شؤون الحياة.  عندما ينحل الفساد بذهاب المفسدين، فإن الفساد يكون حدثاً طارئاً واستثنائياً يستدعي استنفار أجهزة الدولة القضائية والتنفيذية، ويحرك استنكار أفراد المجتمع واحتجاجهم، ويكون في الوقت نفسه نقطة اختبار لمناعة النظام السياسي وحيوية المجتمع.

هنا تكون مشكلة الفساد مشكلة أخلاقية متمثلة بأشخاص فاسدين، استغلوا مناصبهم ومارسوا خيانة للمجتمع والحق العام.  تكون قضية نوايا خبيثة أو أنانية فاقدة لأي رادع أخلاقي أو ديني يمنعها من ممارسة سرقة أو التفريط بأي حق من الحقوق العامة. يكون الفساد عندها مشكلة موضعية وجزئية تشكل تحدياً للدولة والمجتمع في اقتلاعها أو بترها ومحو آثارها، من خلال الصرامة بتطبيق القانون بصفته وسيلة ردع مادية، والتشدد التربوي في قيم النزاهة العامة والورع الديني بصفتهما بواعث ذاتية ومعنوية رادعة.      

المستوى الثاني، يصل إليه الفساد عندما يتجاوز اختبارات المستوى الأول، ليصبح حالة ثابتة وقارة رغم عزل الفاسدين أو ذهابهم. أي لا يعود وجوده أو عدمه مرتبطاً بوجود أو غياب الفاسدين، بل يصبح كائناً لا شخصياً بحكم تغلغله في مؤسسات الدولة، وتحوله إلى شبكة نفوذ وأجهزة فاعلة وقواعد اشتغال ناشطة في أروقة الكيان الإداري ومؤثرة، بل محددة لصناعة القرار العام. عندها يتوارى الفساد عن الأنظار ويعمد إلى الإنتشار الأفقي والعمودي، ليصبح فوق القانون ووراء السلطة، فلا يكتفي بحماية الفاسدين بل يبتلع ويسقط في شباكه الذين لم تطالهم لوثة الفساد.

تصبح معضلة الفساد هنا معضلة بنيوية، بحكم انتقاله من الجزئي إلى الكلي ومن الخاص إلى العام.  فلا يعود فساد أشخاص بل فساد مؤسسات، ولا يعود أزمة حاكم حزب أو موظف بل أزمة حكم ونظام ودولة، ولا يعود أزمة أخلاقية بحكم انفصاله عن نوايا الفاعلين أو المتورطين فيه وتجاوزه لإرادة الصالحين أو المصلحين بل يملك قدرة على تدجينهم وترويضهم، ولا يعود مشكلة قانونية بحكم صيرورته أمراً واقعاً متجذراً واكتسابه شرعية قانونية كاملة لحضوره ونشاطه.

عندها لا يعود يجدي أي حديث رسمي أو إجراء سياسي أو حكم قانوني ضد الفساد والمفسدين، لأن الفساد بات الأرضية العامة التي يقف عليها النشاط العام كله، والناظم الخفي لكل إجراء أو تشريع أو قرار أو حكم. في تلك الحالة يكون الملاذ الأخير هو المجتمع، لا في تصويب الإنحراف الحاصل في المسار العام فحسب، بل في قلع أصوله وسلب كل مرتكزات مشروعيته والنهضة الكاملة للإتيان بمشروعية سياسية جديدة وقواعد انتظام مختلفة في إدارة الشأن العام.       

المستوى الثالث والأعمق يصل إليه الفساد عندما يتجاوز اختبارات وعقبات المستوى السابق، أي حين يعجز المجتمع عن مقاومة الفساد وصده، ويفقد القدرة على إحداث أي تغيير ولا يعود لاحتجاجه أية قيمة أو أثر فعلي، عندها ينتقل الفساد إلى مستوى أوسع وأعمق، يبدأ بمرحلة تدجين المجتمع وتكيفه مع الوضع القائم، يصبح معها الفساد ظاهرة متكررة وعادة مضطردة وأمراً مألوفاً.  تتمثل في أدبيات الإيمان بالقضاء والقدر، وأنه ليس بالإمكان أفضل مما كان، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، و"يا أيها الناس عليكم أنفسكم لا يضلكم من ضل إذا اهتديتم"، ولا "تقاوم الشرير"، وليس باليد حيلة، أو "شو وقفت عليي"، وغير ذلك. ثم يرتقي عجز المجتمع وهشاشته أمام الفساد بأن يخترق الفساد المجتمع نفسه ويضمه إلى دائرة نفوذه وهيمنته بعد أن يسقط كل مقاومات هذا المجتمع الوطنية وممانعاته الأخلاقية، فيعمد الفساد إلى إعادة إنتاج قيم هذا المجتمع وعاداته، وينشيء أدبيات تقرظ الفساد وتثني عليه لا مباشرة ولكن بطريقة مموهة وملتفة، ليكتسي معها قيمة أخلاقية تجعله أمراً ممدوحاً ومحبباً ومطلوباً ومرغوباً.

عندها يرتقي الفساد ليصبح فوق الدولة وفوق النظام، لا ينفع معها تغيير النظام أو الانقلاب عليه، بل يستمر الفساد ويبقى مهما كان شكل النظام أو طبيعته، لصيرورته شأناً متعالياً (Transcendental) على أية إرادة للتغير أو أي ترتيب سياسي أو مؤسسة إدارية أو حتى نظام سياسي، بل يصبح عندها محصناً ضد الدولة نفسها، بحكم صيرورته سجية اجتماعية دفينة تستبطن الفساد وتتمثله في مخيالها ووعيها وسلوكها بطريقة عفوية ولاواعية.

هو مستوى لا أشك أن درجات تحققه في واقعنا باتت عالية على الرغم من وجود جيوب اجتماعية ومدنية وفكرية وفردية تقاوم بشراسة هذا الواقع المؤلم.  فمؤشرات هذا المستوى الفعلية والموضوعية أكثر من أن تحصى: نهب الزعيم للمال العام أو عقده صفقات مشبوهة دليل على أبوته الفائضة لطائفته وحرصه على توفير القدر الأكبر من الموارد والفرص لها..  الزبائنية لزعيم طائفي علامة على الولاء الكامل للطائفة.. الزعيم فوق كل محاسبة، حماية الفاسد أو المفسد الذي ينتمي إلى طائفة معينة دليل على تماسك ومنعة هذه الطائفة أمام الطوائف الأخرى.. ضروب التحايل على المال العام أو نهبه شطارة وحذلقة خارقة... تجنب محاسبة الشركات أو المستثمرين الكبار والغض عن فائض انتهاكاتها المالية والقانونية ضرورة لتعزيز الاقتصاد الوطني وتجنب الأزمات الاقتصادية... وحصر تنفيذ مشاريع الدولة ومشاريعها بعدد قليل من المستثمرين يلائم تركيبة المجتمع الحساسة، إلخ...  

يبدو أن الفساد ما يزال يشق طريقه فينا ليأخذنا إلى مستوى أعمق وأشد من السابق. هو مستوى آخر لا يمكن وصفه أو تحليله إلا بعبارات السلب والعدم والفناء.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها