الثلاثاء 2024/02/27

آخر تحديث: 13:21 (بيروت)

فتاة تل السمن بلا مُغيث..."جريمة شرف" تتحول صراعاً عربياً-كردياً!

الثلاثاء 2024/02/27
فتاة تل السمن بلا مُغيث..."جريمة شرف" تتحول صراعاً عربياً-كردياً!
increase حجم الخط decrease
مروعة هي التبريرات التي قدّمها البعض في مواقع التواصل الاجتماعي بعد انتشار فيديو لأشخاص يتنابون على ضرب فتاة بشكل مبرح وسط الطريق، بداعي "الشرف"، من دون أن يتدخل أحد لمساعدتها، في قرية تل السمن بريف الرقة شمالي سوريا، والتي تقول أن هذه النوعية من التصرفات الآتية عن "دم حامٍ" يجب أن تشكل "رادعاً لأي فتاة أو امرأة تفكر في الغلط أو الخروج على طاعة أهلها وأسرتها".

وانتشر مقطع فيديو مروع للحادثة صوّره المجرمون أنفسهم، أو أفراد كانوا مارين في الشارع ولم يجدوا في الموضوع مشكلة على الإطلاق للتدخل من أجل وقف ما يحصل. ولا يعد ذلك جديداً بل بات أمراً متكرراً، لأن الجريمة نفسها مدعاة للفخر من وجهة نظرهم المريضة. وكانت لافتة مشاركة أطفال في عملية الضرب، بشكل يذكر بكيفية تدوير مفاهيم الشرف والعفة وتربية الذكور على مفاهيم سامّة منذ سن صغيرة، وإشراكهم في هذه النوعية من الأعمال الإجرامية، بشكل يؤثر فيهم نفسياً أولاً، ويحولهم إلى مشاريع مجرمين مستقبليين ثانياً.


وفيما تضاربت الأنباء عن مصير الفتاة مع كلام ناشطين عن مقتلها نتيجة الضرب، فإن الفيديو يذكّر بحوادث مماثلة، في كافة أنحاء سوريا، أبرزها جريمة قتل فتاة قاصر في الحسكة العام 2021 عندما صور 11 شخصاً أنفسهم وهم ينفذون عملية إعدام ميداني رمياً بالرصاص بطريقة وحشية، بحق الفتاة التي قاموا باصطحابها لمنزل مهجور، ولم يشفع للفتاة حينها توسلها وبكاؤها، بعد إصابتها بأكثر من طلق ناري في أنحاء متفرقة من جسدها، فقاموا بتصويب الرصاص على رأسها مباشرة.

وبالطريقة نفسها، كانت فتاة تل السمن تصرخ وتبكي وتتوسل وتكرر جملة واحدة "والله بنَيَّة"، أي "أنا بنت عذراء". بالطبع، كل ما تقوله الفتاة غير مهم. القصة نفسها ضبابية، وربما لا يكون لها أساس من الصحة، لأن مجرد اتهام فتاة في "شرفها" في مجتمعات متعصبة ومنغلقة على نفسها إلى هذا الحد، قد يكون كافياً لإقامة الحد عليها، تماماً كما يجري في مسلسلات البيئة الشامية التي أعادت تدوير مفاهيم الرجولة والبطولة وربط الشرف بأجساد النساء، رغم أن ذلك المفهوم لم يختفِ تماماً من المجتمع السوري، أو حتى المجتمعات العربية عموماً، بدليل حوادث ضرب وقتل النساء المتكررة في الأردن ومصر والعراق وسوريا.

ومن فتاة المنصورة إلى جريمة قتل آيات الرفاعي، يمكن استحضار قصص كثيرة محزنة ومروعة، فقدت فيها النساء والفتيات حيواتهن، على أيدي مجرمين من أفراد عائلاتهن. ورغم أن مسألة جرائم الشرف ترتبط إلى حد كبير بالعادات والتقاليد البالية، فإنها ترتبط بنسخ متشددة من الأفكار الدينية التي تعطي الرجال وصاية مطلقة على النساء من جهة، وبالقوانين المحلية التي تخفف العقوبات على تلك الجرائم من جهة ثانية. وفي سوريا يتداخل المفهومان معاً في وقت تغيب فيه الإحصائيات الرسمية حول العدد الفعلي لجرائم الشرف في سوريا، نتيجة تحفظ الجهات القضائية على الإفصاح عنها.

وحادثة تل السمن حصلت في مناطق سيطرة "الإدارة الذاتية" التي يشرف عليها الأكراد السوريون، وسبق أن وثقت منظمة "سوريون من أجل الحقيقة والعدالة" عشرات "جرائم الشرف" في مختلف مناطق النفوذ داخل البلاد. وأشارت المنظمة في تقرير لها أواخر العام 2019، إلى أن الجرائم في مناطق شمال شرقي سوريا، تم القبض على جناتها وإحالتهم إلى القضاء، ومحاكمتهم وفق "قانون المرأة" الذي أقرته "الإدارة الذاتية" قبل أعوام، حيث تنص المادة (17) على تجريم القتل بذريعة الشرف واعتباره جريمة مكتملة الأركان، عقوبتها السجن من 3 أعوام إلى 20 عاماً.


ولأن الجريمة حصلت في تلك المنطقة، وعلى ما يبدو ضمن عشائر عربية، فإن النقاش انحرف عن مساره في مواقع التواصل، إلى صراع عربي كردي. فتحدث معلقون أكراد عن القانون السابق وعن ضرورة تدخل القوات الأمنية لإيقاف مظاهر "التخلف"، فيما قال معلقون عرب، في مناطق المعارضة السورية تحديداً، أن الحادثة تظهر "أكاذيب" الأكراد حول حقوق المرأة في مناطق سيطرتهم، وهي نقطة كانت حاضرة منذ سنوات في خطاب الأكراد الدبلوماسي والإعلامي. ويفرغ هذا التوتر الإثني والمناطقي، القصة، من إنسانيتها، لأن الفتاة نفسها تُنسى لصالح خطاب قائم على النزعات القومية والصراعات الكامنة في سوريا المقسمة إلى ثلاث مناطق نفوذ، تشهد كلها انتهاكات بحق النساء.

وتكفي الإشارة إلى أن الجهاديين والإسلاميين يسيطرون على مناطق المعارضة شمال غربي سوريا، حيث تتكرر الانتهاكات على أساس يومي، فيما تُحارَب الناشطات والمنظمات غير الحكومية بتهمة إشاعة الفجور والقيم الليبرالية ونشر الأفكار النسوية. أما في مناطق سيطرة النظام، فرغم أن مجلس الشعب التابع للنظام أقر العام 2020 قانوناً لإلغاء المادة 548 الخاصة بجرائم الشرف من قانون العقوبات السوري، ما يجعلها جرائم قتل مكتملة العناصر من دون أحكام مخففة، فما زالت المادة 192 من قانون العقوبات موجودة، وتنص على تخفيف العقوبة على الجرائم المرتكبة بمُسبّب شريف. و"الدافع الشريف" هنا لا دخل للقانون في تعريفه لأن تحديده مقتصر على تقدير القاضي.

وبحسب منظمة "سوريون من أجل الحقيقة والعدالة" تم توثيق 185 جريمة قتل، راحت ضحيتها نساء وفتيات بذريعة "الدفاع عن الشرف" بين مطلع العام 2019 وتشرين الثاني/نوفمبر 2022، كما سُجّل مقتل ما لا يقل عن 20 ضحية أخرى نتيجة العنف المنزلي، إضافة إلى ما لا يقل عن 561 حادثة عنف منزلي أخرى تضمنت الضرب والإيذاء الجسدي، وكلها أرقام تبقى أقل من الواقع على الأغلب، لأسباب عديدة، منها عدم الإبلاغ عن الحوادث بسبب الخوف أو لتجنب الوصمة المجتمعية أو لتستر الأسرة على مرتكب الجريمة وحمايته.

ومثل كل جريمة مشابهة، تساءل معلقون كثر: "ماذا فعلت؟ أخبرونا كي نعرف إن كانت تستحق الضرب أما لا؟"، كجزء من عقلية تحدد التعاطف الإنساني بهوية الضحية أولاً، وانتمائها الديني والمذهبي ثانياً، وسلوكها ضمن سيستم الأخلاق المجتمعية ثالثاً. ويشكل ذلك أسلوباً في التعامل مع النساء على أساس يومي، حيث تحدد الثقافة المجتمعية الشروط المطلوب توافرها كي تكون المرأة "محترمة" من أجل التعاطف معها عندما تتعرض لمأزق. وعند حدوث المأزق يظهر التشكيك فوراً في أخلاق النساء، بدلاً من الحديث عن القاتل أو المغتصب أو المتحرش أو المعنّف. ويشكل التبرير إطاراً للتهرب من المسؤولية ولتكرار تلك الحوادث التي لا يمكن وصفها بالفردية بقدر ما هي الحالة السائدة في المجتمع.


وبالطبع، مهما كان سلوك المرأة أو الفتاة، فإنه ليس كافياً لنيل الرضى ضمن ذلك المنطق الأعوج، لأنه يصور المرأة دائماً طرفاً أضعف يتفوق عليه الرجل فكرياً بالدرجة الأولى ما يؤهله للوصاية والقوامة على النساء في محيطه الاجتماعي. ويتطور ذلك إلى علاقة الملكية التي تربط الذكور بالإناث، ومفهوم الشرف وتحديد ماهية الأخلاق وقيم العائلة. ويصبح العنف الموجه ضد النساء وسط ذلك، حقاً طبيعياً لأغراض التأديب والتقريع، كما تتم الاستفادة من حوادث العنف الأكثر تطرفاً، كجرائم القتل، من أجل توجيه الرسائل الرادعة لنساء أخريات من أجل تمكين السيطرة عليهن كل لا يلقين المصير المظلم نفسه، في حال لم يمتثلن للأوامر والحدود المرسومة، حتى لو كان العنف حالة قد تصدر عن أي شخص في الشارع كما هو الحال في حادثة تل السمن. والأفظع من ذلك، أن حتى هذه الحدود القمعية لا تردع الجريمة في النهاية!

ومشكلة العنف ضد النساء تبقى عالمية، إذ أشارت الأمم المتحدة في تقرير خاص العام الماضي، أن عدد النساء والفتيات اللواتي قتلن في أنحاء العالم، العام 2022، ارتفع إلى أعلى مستوى له منذ 20 عاماً، فقُتلت حوالى 89 ألف امرأة وفتاة عمداً، ما يذكر بأن "الإنسانية مازالت تتصارع مع أوجه عدم المساواة المتجذرة والعنف ضد النساء والفتيات". علماً أن مرتكبي أكثر من نصف جرائم القتل هذه (حوالي 55%) هم أفراد الأسر أو الشركاء، مقارنة بحوالي 12% من ضحايا القتل الذكور. ووقع أكبر عدد من جرائم قتل النساء والفتيات، حوالى 20 ألفاً، في أفريقيا، ومن بعدها آسيا.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها