الأربعاء 2023/08/30

آخر تحديث: 16:48 (بيروت)

الزّائدتان

الأربعاء 2023/08/30
الزّائدتان
"لماذا نبتسم؟" للفنان للبناني ميشال عضيمي
increase حجم الخط decrease
لن أدعهما يتحكمّان بي بعد الآن، لقد استشرت الطّبيب، زرته أكثر من مرّة، تناقشنا كثيراً وأكدّت له بكلّ ما أملك من وسائل الاقناع وبكامل قوتي العقلية إصراري على إجراء العمليّة حتّى وافق أخيراًن مع تكراره لي عدم قناعته بما سيقوم به، لكنّه خضع لرغبتي، وشرح لي ضرورة توقيعي على أوراق خاصة بهكذا عمليات جراحية فأسمعته بوضوح موافقتي على ما يريد وما يجب أن يحصل قبل اصطحابي الى غرفة العمليّات.

كلّ يوم، منذ خمسة وعشرين عاماً، وأنا أراهما كزائدين مزعجين، بوجودهما كنت أحس دائماً باختلافي عن الآخرين، لم أصدّق أنّ الطبيب اقتنع أخيراً بوجهة نظري، فالكلّ يملك خمسة أصابع في يده، وأنا خُلقت مالكاً إصبعاً زائدة في كلّ يد. وللعِلم، لم استعملهما ولم أحتج إليهما ولم أستفد من وجودهما. هذا ما كنت أسمعه من الآخرين طوال الوقت: ماذا تفعل بإصبعك السادسة، ولمَ تستخدمه؟ وأقف صامتاً، أنظر إلى يديّ والى أيديهم متعجباً، حائراً، ناقماً، منسحباً إلى البيت وفي داخلي رغبة قوية في الصراخ: وأنتم ما دخلكم؟ دعوني وشأني! صرخة ظلت مكبوتة في أعماقي.

قضيت ليالي طويلة وأنا أتأملهما حتّى قرّرت إزالتهما. أتذكر عندما كنت صغيراً ألعب مع رفاق الحي، وكانوا يلهون بتسمية الأصابع: "هيدا عمي بوقاسم، هيدا لبّاس الخاتم، هيدا طويل بلا غلّة، هيدا لحّاس القصعة (وعاء من الفخار يوضع فيه المربّى أو صلصة البندورة تحت أشعة الشّمس ليتبخّر الماء منها)، وهيدا فقّاس القملة..."، وأنا أقف حائراً ماسكاً اصبعي الزّائدة بأسى وهم يضحكون.

كما أتذكر جيداً حيرة المعلّمة في المدرسة، عندما علّمتنا تسمية كلّ صبع من أصابعنا باللّغة العربيّة: "الأبهام، السّبابة، الأوسط، الخنصر، والبنصر"، وأنا أشير إليها بإصبعي الزّائدة أنتظر منها إجابة لا ولم تعرفها، فقط سمعت مني بأنّ إصبعيّ الزائدتين خلقتا مع باقي أعضاء جسدي بخلاف كل البشر.

حتى معلّمة الحساب، أكدت لنا بأنّ عدد أصابع الإنسان عشرون إصبعاً: خمسة في كل يد وخمسة في كل قدَم وأنا أرفع كفّي وأنظر إليهما قائلاً: ست أصابع في كل يد، وفي كل قَدَم خمس أصابع، وخلعت حذائي أمام الجميع لأبرهن لها ولزملائي في الصّف صدق أقوالي.

حاولت أن أستخدم هذا الزّائد في كل يد لأيّ عمل، لكني لم أفلح، كنت أحرّك أصابعي الخمس بحريّة وأقوم بكلّ ما وُجدت لأجله هذه الأصابع ويبقى هذا الزّائد وكأنّه يخاطبني: وأنا ماذا أفعل؟ سؤال ظلّ ييرافقني خمسة وعشرين عاماً ولم أنتبه يوماً ما إذا كنت أستخدمه ليؤدي وظيفة معينة مع غيره من الأصابع التي تختلف الواحدة منها عن الأخرى في الشّكل، لكن هذه السّادسة، وبعد استئصالها، لن يسألني عن وجودها..

بادرني الطّبيب وأنا على السّرير في غرفة العمليّات: هل أنت مستعدّ؟
كم تمنيّت أن أراقبه وهو يستأصل هاتين الزّائدتين وأشهد نهاية وجودهما بعينيّ، لكنّه رفض طلبي رفضاً قاطعاً، فالمشهد سيزعجني كثيراً ولن أتحمّله. وافقته عن قناعة، فلا داعي لمشاهدة سير العملية، تحديداً عندما يتمّ رمي أصبعين في صندوق النّفايات الخاصّ بالمستشفيات والذي، والله أعلم، أين وكيف يتخلصون منها. ولم أتابع المراحل التّي جرت فيها العمليّة ولم أشعر ألاّ بالألم الشّديد الّذي أيقظني بعد حوالى الساعتين، وأوّلّ ما فعلته بعدما زال مفعول المخدّر هو النّظر الى يديّ اللّتين كانتا ملفوفتين بالضّمادات، حاولت ان أتحسسهما لكنّ الألم أعادني الى الغيبوبة.

سأتحمّل الألم، سأوافق على مضض أن تطعمني الممرّضة بيدها خلال الأيام الّتي سأبقى فيها في المستشفى للمراقبة. سأتحمل كلّ ذلك حتى أرى نتيجة قراري، القرار الذي اتخذته بكامل إرادتي ولم أسمع نصيحة الأهل والرّفاق والطّبيب. فأحداً منهم لم يحسّ بما أحسسته كل يوم خلال خمسة وعشرين عاماً من حياتي، ولم يولدوا مع زائدَتين مثلما ولدت، ولم يضحك عليهم أصدقاؤهم كما ضحكوا عليّ، ولم يروا استغراب النّاس الذين كان بعضهم يحدّق في يديّ، والبعض الآخر يشيح ببصره مع تمتمة لم أفكّر أبداً في مضمون كلماتها.

المهم الآن أنّي استطيع مصافحة أيّ شخص من دون الشّعور بالحرج، لا تلك النظرة المستفهمة والطفيليّة إلى يديّ: عيب خلقي لا دخل لي برسمه، الآن أستطيع التصرف بيديّ كما أريد وكما أرغب، أستطيع أن أبسطهما وأرفعهما وأنزلهما براحة تامة، وفقاً لمزاجي، عندما أريد، أمام الجميع، وفي كل مكان أقصده، ولا داعي بعد اليوم أن أخفيهما في جيبيّ سروالي..

خفّت الآلام، وفكّت الضّمادات. لكن فاجأتني تلك الآثار الباقية في يديّ، وشرح الطّبيب عدم استطاعته التّخلص منها نهائياً. فلو كان عمري أصغر لكان الوضع أفضل، وربّما اختفت مع الأيّام، في الفترة التّي ينمو فيها جسدي، قبل بلوغي سنّ الرّشد.

خرجت من المستشفى وأنا أتأمّل هذين الأثرين. ندبة مستطيلة صغيرة وزائدة في طرف كل كف، خلف إصبعي الخامسة. ضغطت قليلاً فأحسست بالألم الذي أيقظني من نومي، قمت من فراشي حرّكت رأسي يميناً ويساراً، ويبدو أنّي ضغطت كثيراً على إصبعي السّادسة. أسرعت الى المرآة المعلّقة على حائط غرفتي، رأيتهما، ما زالا موجودين في كفيّ، حمدت الله. وأخيراً تخّلصت من كابوس مرعب، ولن يعاودني بعد اليوم: دعوني وشأني، نظرت الى كفيّ في المرآة مرّة، وبأمّ عينيّ مرة أخرى. كررت الأمر مرات عديدة. تمعنت في كفيّ، راقني النّظر اليهما: أصبع سادسة في كلّ كفّ، وما العيب في وجوده؟ من المؤكد أنّي أستعمله في اعمالي اليوميّة من دون أن أنتبه، وبصوت عال، وأمام المرآة، قلت: دعوني وشأني.. دعوني وشأني...

لقد ساعدني كثيراً هذا الكابوس، وإلا لكنت ارتكبت خطأ فادحاً سأندم عليه طيلة حياتي. ومِن أجل مَن؟ مِن أجل طفيلييّن أو مستغربين أو غيرهم ممّن يعتبرون أنفسهم على أكمل صورة؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب