الخميس 2023/07/13

آخر تحديث: 16:25 (بيروت)

العارف بأدقّ الأمور

الخميس 2023/07/13
العارف بأدقّ الأمور
تجهيز للفنان اللبناني نديم كرم
increase حجم الخط decrease
ولو! ألم أقل لك؟! ألم تعرفي؟
ولو! كان الأمر مؤكداً! العبارة الدّالة على العارف بالأمر، وكما يقال، محطة كلامه. ولو.. مصحوبة بالسّخرية الواضحة على قسمات وجهه.

ولووو... كنت أعرف لأنّي، كما تعلمين، من المتابعين، تذكّري! قلتها لك مراراً، أنّي أتوقّع ارتفاع سعر الدّولار مقابل انخفاض قيمة اللّيرة، وذلك منذ فترة قريبة، ووصلنا الى ما وصلنا اليه، أضاف بلهجة السّاخر والعارف بالأمور على اختلافها، شأنه شأن من أجالسهم في الحي حيث أقيم متى سمحت لي الفرصة، وذلك لأسمع تعليقاتهم على آخِر الأحداث والأخبار المحليّة: ألم تعرفي أنّ فلاناً، السّياسي، هرّب أمواله من المصرف -عفواً المصارف- الى الخارج؟ كان الأمر واضحاً وضوح نور الشّمس في سمائنا..نعم وألف نعم، كان الأمر مؤكداً بأنّنا، نحن عامّة الشّعب، سنهوي ونصل إلى القاع ونتمركز في قعره منتظرين الفرج الذي قطعاً لن يكون على زماننا... ولا في مكاننا...

لم أتفوّه بكلمة ولم أنظر الى وجهه وهو يتابع سرده عن كل شاردة وواردة، حتّى لا يصيبني ما يصيب من يقف في مواجهة سيل جارف من المعلومات والأخبار التّي يتحفك بها اللبناني العارف بكل شيء. ففي اعتقاده أنه عيب ألا يشارك في تبادل المعلومات، سياسية كانت أو طبّية أو اجتماعية، ومن العار عليه عدم إدراكه لكل شيء. اللبناني الذي، لحظة يسمع كلمة عن موضوع معيّن، يغرقك بمحاضرة عن نوع الدواء اللازم لهذا المرض، أو يفرض عليك سماع وجهة نظره الصّائبة بضرورة أن يفعل السياسي كذا وكذا، أو يؤكد لك وجوب زيارة الأقارب من وقت لآخر، أو أو أو...

نعم يا أخي، حضرتُ أحدى جلسات النقاش العاصفة وسمعت بأذنيّ هاتين، ويضع يده على أذنه محركاً إياها يميناً ويساراً (ذكّرني بالعقاب الذي كان ينتظر ويقع حكماً على من يرتكب خطأ في المدرسة أو البيت أو الشارع من أمّه أو أبيه): الرّغيف سيصبح حكراً على الأغنياء، وأنت أنت أصرّيت على إغماض عينيك وصمّ أذنيك وربط لسانك، وما زلت! وأنا وأنت، المصنّفين طبقة وسطى لم تعد موجودة، نحاول أن نقنع عائلاتنا بالتّقليل من تناوله... قوت الفقراء اليومي...

صاحَبَت عبارته الأخيرة ضحكة من موقفي غير المبالي والعاجز عن أيّ ردّ فعل على ما حصل ويحصل وسيحصل، مترافقة مع نظرات الشّماتة في ما وصلنا اليه، وكأنّي المسؤولة الأوّلى عن غلاء رغيف الفقراء وتهريب أموال الأغنياء، وأنا صامتة صمتاً مطبقاً، أنظر إليه وهو يسخر منّي مرّحباً بعودتي من المرّيخ: كائن حطّ رحاله في هذه البقعة من الأرض المعروفة بلبنان، وفي ذهني سؤال واحد: وأنت، العارف بالماضي والحاضر والمستقبل، ماذا فعلت؟

لكنه يسألني، أنا غير المتابعة لتسارع وتيرة الأحداث، إن كنت أرغب بتناول فنجان من القهوة التي ارتفع سعرها بلا مبرّر وفقاً له، قهوة مع السّيجارة التي أشعلتها فيما هو يحدّق في العلبة يحاول معرفة إن كانت مستوردة أم وطنيّة ليبني على الشيء مقتضاه. ويتابع مركزاً على عدم أحقية المسؤول عن صنع هذه السّلعة أو تلك في رفع سعرها، لأنّها صناعة وطنيّة، ومعدّداً أصناف لا مبرر لارتفاع سعرها بهذا القدر إذ تضاعف أكثر من مليون في المئة (كيف تُحتسب هذه النسبة؟!). ولا يسمح لي بالقول أنّ أصحاب المصالح وجدوا أنفسهم مجبرين على ذلك، لأنّ كلفة الصناعة ارتفعت كثيراً، فالسّلعة الواحدة، ليتم انتاجها، مرتبطة بغلاء البنزين أو المازوت أو المواد الخام المستوردة وبالدولار الأميركي، ناهيك عن ارتفاع أجور الأيدي العاملة. ومع ذلك، طلب لي وله فنجانين من بائع القهوة المتجوّل الذي نعرفه ونعرف أنّ بيعه للقهوة هو عمل إضافي على وظيفته الصباحية كحاجب في إحدى المؤسسات الرّسمية، وأنّ الرّاتب الذي يتقاضاه لم يعد يكفي لشراء البنّ والسّكر وأكواب البلاستيك التي يحتاجها في تجارته الصغيرة. 

أرتشف القطرة الأولى من قهوتي، ليعاود الكلام: فلان، جارنا النّجار الذي كان يأمل في تقليل دوام عمله المتعب، يعيش حالة كآبة بسبب سفر ابنه البكر الذي حصل على وظيفة في شركة خليجيّة. هنا أيضاً لم يسمح لي بتبرير موقف الابن الذي اضطره وطنه، بعد تخرّجه من الجامعة، للعمل في الخارج، أنّها فرصة لا يجوز التفريط فيها، ولا بأس من متابعة عمل النجارة، فالعمل مهم وضروري ويبقيه على تواصل مع النّاس، ما دام في استطاعته القيام به.

ويتابع محرّكا رأسه في الاتجاهات كافة، مصدراً زفيراً مع "أوووف" أحسست أنّه أطلقها من معدته، وابتسامة صغيرة: فلانة حوّلت منزلها المتواضع إلى متجر لبيع الألبسة الجاهزة، كنت أعرف أنّها لا تملك الخبرة الكافية في هذه التّجارة التي يشكو أربابها من تكدّس بضاعتهم في المستودعات، يقولون إن الغالي أصبح رخيصاً، والرّخيص غالٍ، فما العمل؟

وأيضاً وأيضاً وأيضاً، لم يسمح لي بالثناء على تلك السّيدة التي فكّرت في إضافة دخل مالي لأسرتها، في وطن ندفع فيه وبالدولار ثمن كلّ ما نحتاجه في معيشتنا اليوميّة، بعد الاستغناء عن معظمها باعتباره كماليات. وكيف أننا مَحونا كلمات مثل: يلزمني وينقصني وأنا بحاجة الى كذا وكذا من قاموسنا، فالقناعة كنز لا يفنى والأمثال لم تُطلق عبثاً...

فجأة نسمع هتافات شبان وشابات، يصرخون بأسى واضح رفضهم لارتفاع الأسعار بشكل جنوني، وطمع الجار الذي يدفع ثمنه المواطن وحده، وانقطاع الكهرباء الدّائم ووو....

تبادلنا نظرات التهكم. من أنا ومن هو؟ قلت له: لماذا لم تتوقّع حدوث تحرّك مثل الذي يمرّ أمامنا؟ ألم تعرف بالنتيجة التي عاجلاً أم آجلاً لا بدّ حاصلة.. ومن مثله يعلمنا نحن الذين تنقصنا الرؤية الثاقبة.
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب