الإثنين 2023/08/28

آخر تحديث: 19:21 (بيروت)

فرج سليمان: مسا الخير!

الإثنين 2023/08/28
فرج سليمان: مسا الخير!
increase حجم الخط decrease
وصلتُ باكراً. أنا التي تصل باكراً إلى كل موعد. وإذا أشار هذا الأمر إلى شيء، فإلى القلق الدائم الذي يرسم في عقلي سيناريوهات عن كوارث محتملة الحدوث.
وصلتُ باكراً، كما وصل المئات غيري. كلنا لا نريد للكوارث أن تحدث، نحن الذين نعيش في قلب كارثة لا تنتهي. كلنا نريد الفرج، مقروناً بسليمان.

خلال الساعات الأولى بعد إعلان موعد حفلته في لبنان، بيعت كل البطاقات التي يتناسب سعرها ووجه انهيارنا. كلنا نريد الفرج. وكل ما يمكن أن يحمله معه مِن بلسم لما نحن فيه. وكلنا نريده بمبلغ لا يضع مدخرات شهرنا في خطر.

جلستُ أراقب الحشد. يافعاً كان. نابضاً وملتهفاً. شعرتُ فجأة بأني كهلة، وبأنه من المستحيل أن أطلب فَرَجاً كالفَرَج المُراد من الشباب هذا. نحن هنا، لأسباب مختلفة.

صفوف طويلة من المنتظرين أمام باب الدخول. "البلد بألف خير". لست أكيدة. الصفوف تلك لا تعني أن البلد بخير. لربما تعني بأنه ليس بخير البتة. وهو هنا ليشتري لنفسه بعضاً من "الخير"، بعضاً من أوهام الفرح.

دخلنا. وحُشر بعضنا- خصوصاً أولئك االذين لم يتمكنوا من دفع ثمن البطاقات "الذهبية"- حشراً في خلفية المكان.

المكان بالمجمل، جميل. شبه دائري. من يعرف O Beirut، لصاحبه الموسيقي ميشال فاضل، يعرف أن المكان صُمّم بطريقة فنية تسمح برؤية المسرح من الجهات كافة.

تأخر فرج سليمان. ارتأى المنظّمون أن أغاني زياد الرحباني كفيلة بأن تُنسينا الانتظار. لم يعجبني الأمر. ليس لأني لا أحب زياد. لكني أرفض الربط بينه وبين فرج سليمان، رغم ما يقوله البعض عن ذلك. أنا لست هنا لأن فرج خليفة زياد. أنا هنا لأن فرج يعلم ما يفعله، بفرج. يعلم كيف يحول البيانو لى قانون. إلى آلات غير نفسها. أنا هنا لأني اشتقتُ للموسيقى، بحللها الحقة، الفذة، تلك التي تسرق من جلدك القشعريرة تلو الأخرى. فرج يمكنه أن يلمس الجِلد، وأنا أيبس في أرض الوطن.

وأزيحت الستارة. "مسا الخير. كتير اشتقت قول مسا الخير، باللغة تبعي"، قالها فرج ليتحول الحشد إلى هدير عظيم. "بيروت من أحلى عواصم الدني. كمان، حيفا". الجمهور الفلسطيني هنا. شبابه، صغاره، جيله الثالث، هنا.

أبتسم. أشعر بقرب فرج من ناسه. أشعر بقلقه. جمهور لبنان غير جمهور المجرة كلها. ليس لأنه صعب. بل لأنه يحمل وصمة لبنانيته. وفلسطينيته. ولبنان ثقيل. والقضية المنسية أيضاً.

وبدأ العزف. وانشطر ذهني (كما أذنيّ)، إلى شطرين. شطر يلتقط اللحن، كمَن لم يعرف الماء منذ دهر، وشطر يسأل نفسه عما إذا كان مهندس الصوت يعي الكارثة التي أحلّها بفرج، وبنا معه. ميشال فاضل عازف بيانو، وأقل ما يقال أنه يعي ما يحتاجه أي عازف - وتحديداً عازف البيانو. الصوت رديء. لا أحد من الموسيقيين يسمع ما يفعله زميله. لا يسمعون فرج حتى.

في كثير من الأحيان، رأيتُ فرج يزيل الـear monitor من أذنيه. لا يَسمع ولا يُسمَع. لكن ذلك ثانوي، لمن جاء يسمع "أغاني" فرج، لا موسيقاه. لمن جاء يهلل لـ"اسا جاي" على حساب كل "الشطحات" الموسيقية (الارتجال). ورغم المأساة في هندسة الصوت، ارتجل فرج.

جلستُ القرفصاء، في زاوية منسية من خلفية المكان. أردتُ أنا أيضاً أن أساعد فرج. أن أسافر معه، رغماً عن المصيبة الصوتية. ثم يوقفنا الجمهور. بطلبه المُلحّ بأن يعيد فرج غناء "اسا جاي" أو "gentrification". وفرج كريم. يصغي ويجيب. يعطي الجمهور ما يريده. تريدونني أن أغني؟ أن تلتصق بي لعنة "اسا جاي" كلعنة "عايشة وحدها بلاك" لزياد؟ أن أتوقف عن الصعود إلى عوالم أخرى، لكي يتسنّى لكم الغناء معي؟ لكم ما تريدون. لكن على حساب الموسيقى التي كنت قد قررت أن أقدمها لكم.

لا يمكنني أن ألوم الجمهور. فهو يافع ويريد أن يكون له دور، في كل شيء.
أنظر إلى صديق، ونحن نستمع لـ"اسا جاي" للمرة الثالثة. نبتسم معاً. نتفق بأننا هنا، لأسباب مختلفة.

مجيء فرج إلى لبنان، وإحياؤه حفلة، أمر في غاية الأهمية، رغم كل المصائب الصغيرة التي حلت بالحفلة. وجوده هنا، يعني أننا ربما بدأنا نستفيق من خبوتنا، لنبدأ الاستثمار في فنانين يعون ما يفعلون. يقدمون الفرصة لأمثالهم، يفتحون الباب أمام موسييقين مثلهم.

الموسيقيون الذي رافقوا فرج سليمان، ليسوا من فرقته الأساسية. هم لبنانيون. وقد أعطاهم فرج، فرصة الظهور، في بلد يحب "طغاة الفن" وارتداء الزي الموحد.

لم يستطع فرج أن يلعب الموسيقى. وقد اُجبر على إيقاف naughty boy لكي يجيب جمهوراً يريده أن يغني.

أفهم فرج. وأفهم ربما لماذا لم يلعب "الموسيقى" أكثر. ولماذا لم يلعب أياً من مقطوعات ألبومه الجديد "الملكة". ما لا أفهمه هو المدة التي اعطانا إياها. كان يمكنه، بكرمه الذي وعدنا به حين استهل حفلته، أن يعطينا بعد أكثر، من دون أن يعيد غناء الأغاني نفسها لأن "الجمهور عايز كده".

يعود فرج سليمان إلى لبنان في 15 كانون الأول المقبل. إلى حينه، انتظره. ولو لعب وحده في منتصف طريق فرعي... على أن يعي منظم الحفلات بأن سعر 40 و45 دولاراً للبطاقة يُلزمهم باحترامنا أكثر، واحترام آذاننا.

فرج سليمان، شكراً. ستعي، وأنت تتقدم في السن، بأن ما يبقى، ليس هتاف الجمهور، بل القشعريرة.



increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها