الخميس 2023/11/30

آخر تحديث: 22:49 (بيروت)

بريل وبربرا على العشاء

الخميس 2023/11/30
بريل وبربرا على العشاء
جاك بريل بريشة ألبرتو راميريز
increase حجم الخط decrease
قررت في يوم من أيام تموز سنة 1978، أن أدعو جاك بريل الى مأدبة عشاء، لنشرب نخب الوحدة معاً.
لست وحيدة تماماً، أردت أن أعترف له لحظة وصوله. من يدَع الشعر المُغنّى يسيل في حلقه، لا يمكنه يوماً أن يكون وحيداً.
من يكتبه، ربما. سأسأله.
حين اتصلت به، كان صوته غريباً. وكأنه كان يعاني من علة ما.
أردت أن أخبره بأننا سنكون وحدنا، ولن يكون هناك أي مدعو آخر يشاركنا لحظاتنا.
"أريد بربرا. هل يمكنك أن ترسلي لها دعوة؟ هي لا تجيب إن اتصل بها أحد. راسِليها. ستحبينها".

لم اكن مستعدة لمثل هذا الطلب. لم أكن مستعدة لأن تدخل بربرا بيتي، بثوبها الأسود، وأنفها الحاد، والكحل الذي يرسم سكاكين فوق جفنيها.
بربرا تخيفني. تقلقني. ماذا سأقول لها؟
عمَّ ستدور أحاديثنا؟ لا شيء يربطني بها. سوى أني لطالما شعرت، بأنها ليست من هذا العالم. وأنا لا أحب الموتى العالقين، العائدين دوماً دونما ثبات. ترحالهم الدائم، وكل هذا الهواء الذي يصفر داخل أرديتهم...

لكن هل يمكنني أن أرفض طلب بريل؟ سأحاول أن أكون مضيفة لبقة. الكل يعلم بأن بربرا لا تحب كثرة الثرثرة. ستصمت هي. بينما يخبرني بريل، كيف يشعر مَن يكتب ما يكتبه هو.
راسلتها. أجابت برسالة من سطر واحد: "سأتي. جاك يحتاج إلى وجودي".
لم أكن أعلم طبيعة العلاقة التي تربطهما. لكني كنت على يقين بأنها تحبه حباً لا شكل له سوى الشكل الذي يأخذه الموت، حين يلف برأفة، أيدي الأطفال.

وصَلا معاً. فتحتُ الباب. ابتسم هو ودخل، وكأنه كان هنا منذ دقائق.
القطط حيَّته والتفّتْ حول ساقه. جلس. ضحك مجدداً.
"بربرا تعلم أني سأموت قريباً. هي هنا لأنها تعلم".
تسمّرتُ في مكاني. شعرت بأن سقف المنزل سقط فوق يديّ الصغيرتين. جهدٌ جبار، أن تحاول منع سقف من السقوط.
تبتسم بربرا.

"لقد كتب قصيدة عن وجبته الأخيرة. هل يمكن يا جاك، أن يكون هذا هو العشاء الأخير؟"، سألَتْه.
"سألقي شيئاً منها عليكما. إن كان هذا هو عشائي الأخير، سنفرح به معاً. وإن لم يكن، سأفرح وحدي".
جلست بربرا قربي. أمسكت بيدي. للمرة الأولى في حياتي، أشعر بأني أغمر عظاماً دافئة. للموتى العظماء، عظام دافئة.

"خلال وجبتي الأخيرة
أريد أن أرى إخوتي
وكلابي وقططي
وشاطئ البحر.
لن أحتفظ
لترتديها روحي
سوى بشتلة ورد
وباسم امرأة.
وفي رائحة الزهور
التي سوف تموت قريباً
أعلم بأني سأخاف
للمرة الأخيرة"(*)

لم أعد أدري ماذا أفعل بروحي. لعلّ الخوف الذي يطاول الروح، هو الأكثر إيلاماً.
يمد بريل يده ويأخذ قطعة جبن. يقربها من أنفه. يشمّها كمن يشمّ زهرة ياسمين ستموت بعد قليل.
"خذي كُلي"، أمر بربرا.

هي لا تأكل إن لم يطعمها أحد. لعلّ الموتى الأحياء لا يأكلون إن لم يأبه بإطعامهم أحد.
نجلس بصمت. لم أعد أجد ما أقوله. تنهمر دموعي فجأة. تبتسم بربرا.
"لا تحزني"، تقول لي برفق شديد. "على الأقل، أنت تغنّين جاك، كلما يحلو لك. هذا، يا عزيزتي، لفرح عظيم".
انا لا أستطيع. لن أستطيع....
______________________


ولدتُ في الثاني والعشرين من نيسان، سنة 1979. أي ستة أشهر بعد موت جاك بريل(**)
كل ما سبق، أعيشه رغم كونه محض خيال.
أعيشه كلما أردت أن أغني لجاك بريل. قبل أن أشرع بالكلمة الأولى، أحضّر المائدة. أتصل به ليأتي. يطلب مني أن يصطحب بربرا معه. أفتح له. يضحك. أبكي. وأغنّي.
لم أستطع يوماً أن أغني أي أغنية لبربرا. حتى لحظة كتابة هذه السطور. من يستطيع أن يغني لموتى عظماء، ذوي العظام الدافئة؟
لم تغنّ بربار أي أغنية لجاك بريل، بعد موته. لأنها تطعمه كما كان يطعمها، وهو ساكن في أحشائها.
أنا إذاً أغني بريل، الذي تحمل به بربرا. من دون ولادة.

(*)
Le Dernier Repas, Jacques Brel, 1964
(**) توفي جاك بريل في 9 تشرين الأول 1978

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها