الثلاثاء 2023/08/01

آخر تحديث: 07:52 (بيروت)

أعلم جيداً، إنها ليست الشمس نفسها!

الثلاثاء 2023/08/01
أعلم جيداً، إنها ليست الشمس نفسها!
increase حجم الخط decrease
في يوم مشمس كأي يوم مشمس، سار معي "بيسوا" في ازقة لشبونة. لستُ أكيدة إن كان هو، أم أحد أَبدالِه الذين اشتُهر بهم. كانت الشمس تحول دون ان استطيع ان انظر الى وجهه. شعرت بأنه كان يبتسم. الابتسامة لا تُرى، مثل أثر الفراشة. 

كان يمشي بتمهّل، كأنه يرى المدينة، لأول مرة. للمرة المئة بعد أول مرة. شمس البرتغال لا تشبه أي شمس أخرى. قالها لي. أو قلتها له، دونما دراية مني إن كان الكلام يخرج من رأسي إليّ، أو منه الى المدينة.

شيء يشبه القطن الأبيض، او "النفناف" كما نقول عنه في بلادنا، ثلج قطني يتساقط على مهل، بحساسية مفرطة، كي لا يخدش الاشياء. فالأجسام. فالمدن.
يبتسم بيسوا مجدداً، ويأخذني بيدي لنزور "ساراماغو".

أسير وأسيح في آن. شمس البرتغال حادة، ولكنها كالنفناف، تتساقط على مهل.
أشعر بانطونيو تابوكي يمشي خلفي. خلفنا معاً. يراقبنا والشمس. أعتقد بأنه كان يلتقط صوراً لنا. تركت البرتغال من دون ان أسأله أن يعطيني نسخة عنها. كنتُ وددَتُ لو احتفظت بصورة لي، ولشمس البرتغال.

أفترش الأرض فجأة، وأجلس في منتصف ساحة التجارة في لشبونة (Plaça de Comèrcio). الشمس ما زالت تضع يديها الاثنتين فوق جمجمتي، وانا أقول لبيسوا: شمس البرتغال لا تشبه أي شمس أخرى.

"لقد متّ لأن شمسي انطفأت". يعترف لي بيسوا وهو يهمّ بالرحيل. علمتُ من دون ان اعلم بأنه سيتوجه الى مقهى قريب. لا يمكن لأحد ان يراقب المدينة، والشمس تضغط بكفّيها على رأسه. لا يمكنك ان تستحم بالغبطة، وتراقب من يستحمّ بها معك.

بيسوا يريد أن يراقب. وانا أريد أن ينتهي كل شيء الآن، في هذه اللحظة، من يوم مشمس كأي يوم مشمس.

الشمس في البرتغال لا تشبه أي شمس أخرى. فهي لطيفة لطف يد رضيع، وهو يضعها على وجهي.

شمس البرتغال لا تشبه شمس لبنان اليوم. هذه الاخيرة هي نفسها شمس ألبير كامو، التي تترافق وموت أمه. شمس لا صيرورة لها، ولا هدف. شمس لا تضغط بلطف، ولا تأبه بالنفناف. شمس عليلة. 

كوكب يحترق لنحترق معه. ينزل كسيخ من لهيب ليفرغ احشاءنا مما فيها. "أعتقد أن البؤس سيكون أقل إيلاماً في الشمس". يغني أزنافور، وأنا أغضب من سذاجته. فهو مخطىء ولا يفهم كم مميتة تكون الشمس، في بلاد عليلة.

كيف لشمس أن تختلف عن مكان وقوعها؟ كيف لها ان تعيد الحياة لمن لا حياة فيه؟
أنا لستُ أقل بؤساً، لأن شمس لبنان اليوم، تغمرني وتغمرنا وتميتنا وتضحك بسخرية علينا، نحن المقهورين في الأرض.

أنا لستُ أقل بؤساً في الشمس. القطط في الحديقة لا طاقة لها لان تصل الى وعاء الماء الذي أضيف اليه كل ساعة، قطعاً من الثلج.

الذباب الذي كان يحوم حول طعامهم، اختفى او مات او هاجر او انتحر.
أشجاري تحارب الموت وتئنّ لأن الماء الذي أسقيها منه، ساخن ولا حيلة لدي لكي أجعله أقل قساوة.

ماذا أفعل بشمس لبنان؟
هي نفسها شمس الصحارى. وأنا أخاف الصحارى. هي نفسها شمس البلاد التي يموت اطفالها من شح المياه. هي نفسها شمس البؤساء.

لا علاقة للشمس بالاحتباس الحراري. ولا علاقة للشمس بما فعلته أيدينا. لا علاقة للشمس ان اصبح لبنان بلد اللاممكن. وكيف لا؟ نحن البؤساء، سكان الاماكن غير الممكنة، جعلنا من شمسنا، امتداداً لقهرنا. الشمس تفهم لغة الحب. تفهم لغة الطيور والاشجار. تفهم لغة العطاء. 

يجلس "البير كامو" الى جانبي، على أريكة أمام مروحة كهربائية، تزيد من ثقل الحر وتجعل من جسدي، جيفة نتنة، تتحلل، ولا تموت.

"الشمس أحد، وليست شيئاً. تحمل الفأل السعيد أحياناً، وأحياناً تحمل الكارثية، وهي القدر والمأساة والأسطورة". يتمتم كامو وهو يحاول أن يشرب ما تبقى من ماء في كوب منسيّ على الطاولة.
"في بلد آخر،
الشمس تنثر الذهب فوق البيوت اعلى التلال.
الشعور بها أقوى
من حادثة مماثلة، في بلدنا الام.
إنها ليست الشمس نفسها.
أنا أعلم جيداً، أنها ليست الشمس نفسها". 

يكتب لي تلك القصيدة، لكي اصدق بأن شمس البرتغال، لا تشبه اي شمس اخرى، وبأن شمس لبنان، مأساة وقدر، اتفاق آلهة على ان نتحلل جميعاً، دون أن نموت.
أوليست هكذا، بيروت؟
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب