الخميس 2023/10/26

آخر تحديث: 17:05 (بيروت)

وائل، أتسمعني؟

الخميس 2023/10/26
وائل، أتسمعني؟
increase حجم الخط decrease
سأحاول جاهدة ألا أبكي.
أنا لم أبكِ منذ المشاهد الأولى للمجازر في غزة.
لم أبكِ مذ مات أبي.
أحيد نظري. أرتدي جلد امرأة اخرى، لم تخسر أحداً.
لقد ابتكرتُ شبيهةً لي، هي الوحيدة التي لا أحدَ لها تبكي عليه. ولا أحد يبكيها.
أنا والموت، لسنا على وئام.
هناك مَن يتعامل معه على أنه حق. صفقة أبرمناها والحياة.
شبيهتي لم توقّع أي صفقة. فهي من جِلد وعروق، يسيل فيها ماء.
الماء لا يوجع القلب، يا وائل. فقط الدماء.
هل كنت تعلم، بأنك ستبكي؟
هل كنت تكذب علينا، كلما كنت تطل من خلال الشاشة، بوجهك السموح وعينيك اللّتين لا يَكلُّ بؤبؤيهما، هل كنت تعلم بأنك ستوقعنا في الفخ؟
فخ أن نُفجع معك، لحظة الفاجعة.
هناك ما هو أقبح من الموت. أقبح من مشاهد الجثث في شاشة. أقبح من الانتظار.
الصمت يا وائل. صمت الصحافي على الهواء. صمته حين يسمع خبر استشهاد عائلته.
"بنتك. هي بنتك"، قيل لك.
"شو اسمها؟ قل لي، شو اسمها"، أجبتَه.
المذيعة في استديو "الجزيرة"، اعتقدت بأن الإرسال معك، انقطع.
أنا، كنت أعلم.
شعرتُ، للمرة الأولى، كيف تغيّر صوتك. كيف كنت تأكل الحشرجة. تبتلع دموع الدم. تعيد السؤال.
المذيعة تنادي عليك.
"وائل، أنت على الهواء، أتسمعني؟"
أنت لم تعد هنا. صمتك كان معنا. وهذا الصمت قاتل يا وائل.
لم تعطني وقتاً كافياً لأرتدي شبيهتي. صمتك هذا، لم يكن في الحسبان. وهل يصمت المراسل؟
كنت صديقنا. حبيبنا. عيوننا وعيون العالم، حتى ولو اختار العالم أن يحيد نظره.
كنت جليسنا. تسكن معنا، ليلاً ونهاراً. ننتظرك.
كنت أنتظرك، يا وائل.
أنت وتلك الحساسية والرهافة التي يملكها فقط مَن يسيل الكثير من الدماء في عروقه.
"عن بعد، عن بعد"، كنت تصرخ للمصور حين تصل دفعة من الشهداء، بينهم أطفال ونساء.
رفضتَ التنكيل بالجثث. رفضت أن تفقع عيوننا، بمشاهد ستتحول إلى كوابيس ليلية.
وائل، أتسمعني؟
لقد كانت علاقتي بك، علاقة من طرف واحد. مثل تلك العلاقات، هي الأخطر. والأكثر توهجاً.
أَبني سردياتي، معك.
وأقول في نفسي "طالما وائل بخير، كلنا بخير".
وحين تنتابني نوبات الأرق، أهرع لأسمعك. لأراك.
أنت الحي فينا، حيث الأحياء والأموات، أرقام.
أنت القلب فينا، وهو يسمع الصواريخ، وينتظر النتيجة المروعة.
أنت القلق فينا. أن أسمعك، يعني مشاركتي السخيفة جداً، في كل ما لا حيلة لي لأحول دون وقوعه.
أخذتني بيدي، كما أخذت الكثيرين منا، نحو الفاجعة التي نتشاركها مع أبناء غزة، لأنك الرابط بيننا وبينهم.
الرابط شبه المقدس، يا وائل.
لقد خسرنا معك، كما خسرت. صَمَتنا معك. بَكَينا معك. وفجأة، فهمنا. فهمنا أن علاقتنا بك، خطيرة.
ابنتك وابنك وزوجتك، هم من أفراد عائلتنا.
حفيدك الذي لا يبلغ من العمر سوى شهر ونيف، هو طفلنا.
وهل تدري يا وائل، مصابنا هذا؟
هل تعي كيف لعبت أكبر أدوار البسالة، في الحروب؟
لقد أخذتنا معك. وها نحن اليوم، نشيع عائلتك، التي حاولتَ أن تُسكنها في مخيم، قيل أنه آمِن، ليتسنى لك أن تبقى معنا.
لقد خُنتَ العائلة، معنا، يا وائل.
ونحن العشيقة التي تشعر بذنب، لا أوّل له، ولا آخِر.
ترَكتَهم، وسَكنتَ معنا.
"بينتقموا منا بالأولاد؟ معليش."
قلتها وأنت تلملم أجزاء من روحك.
ونحن يصيبنا شيء من الذهول.
أتسمعني؟ لن تسمعني يا وائل. لكني أسمع تنهيداتك كلها.
أسمع وأبكي.
أسمع وأعي، للمرة الأولى، بأن المقاومة تشبهك.
تشبه وجهك المستدير وصوتك القريب ووجعك.
لقد خسرنا، في الخامس والعشرين من تشرين الأول، ابناً في السادسة عشرة من عمره، كان يريد أن يصبح مثل أبيه، صحافياً.
خسرنا ابنة وزوجة، وحفيداً.
لقد جعلت غزة، أقرب. جعلت أهلها، أهلنا، من دون تخيّل ولا مزايدة في المواقف.
أنت الصحافي الذي لن تنساه غزة، والذي أبكانا وجعلنا غزاويين.
وائل، أتسمعني؟ 

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها