الأحد 2023/07/16

آخر تحديث: 00:01 (بيروت)

"أبو كيس" الذي يسكن تحت السرير

الأحد 2023/07/16
"أبو كيس" الذي يسكن تحت السرير
لوحة للفنان الفلسطيني نبيل عناني
increase حجم الخط decrease
خَرجَت ولم تعُد. أراقب صورتها من كثب. "غادة"، "فاطمة"، "رشا"... تتغير الأسماء، لكنها هي نفسها، تلك التي لا أعرف عنها شيئاً، سوى صورة يعممها موقع أمني لعل هناك مَن التقى بها، لعل هناك من يلتقي بها، ليعيد المفقودة.

أتساءل عن الفعل، فعل الخروج. هل خرَجَت أم هرَبَت؟ الخروج فعل طوعي، أما الهروب، فهو نتيجة خطر. هل خرجَت أم هربَت؟

أظن أن الجهات الأمنية التي تعمم هكذا خبر، لا وقت لديها للفروق في المعنى. لكني أعتقد بأنها تصرّ، بوعي أو من دونه، بأن الفتاة التي خرجت، خرجت طوعاً. لم تهرب. لا سبب لديها لتهرب. مَن يهرب من بيت أهله، وهو أكثر الأماكن أماناً؟ وأكثر الأماكن التي تعلو قضبانها؟

لمَ خرجتِ يا غادة؟ عودي الى حضن أمك لكي يستكين الأمن، ورجال الأمن، ورجال الدولة، والوطن.

خروجك سافر يا غادة، يا رشا... خروجك يضعنا في حيرة. لم تكن القضبان بالعلو المرتجى. كان علينا أن نفكّر بأغلال أخرى. لقد قال أخوكِ لأبيك مراراً أن يغيّر قفل الباب، أن يضع قفلاً مزدوجاً. كما أكّد له، بأنه سيكلّم "معلّم الباطون" لأن الشرفة لا حاجة لكم بها في المنزل. تكشفكن جميعاً، وأنتم تحتاجون لمساحة مقفلة أخرى. غرفة لأخيك وزوجته، أو لأطفالهما المحشورين حشراً.

خروجك يضعنا نحن، المتفرجين على صورتك التي نراها للمرة الأولى، في موقع المتفرج الذي يحزن للحظات فقط. يحزن ويفرح لأنه لا يعرفك.

كنا، في السنوات الماضية، نتفرج على صور عاملات أجنبيات. لكن الجهات الأمنية كانت تصرّ على استعمال كلمة "هربَت" بدلاً من "خرَجَت". فهي مذنبة وسارقة وغير شرعي تواجدها خارج البيت الذي دُفع ثمن سجنها فيه.

أنتِ لست مسجونة يا غادة. لقد خرجتِ. والأمن يطلب منا أن نساعده في عودتك سالمة.

القلق. مَن يقلق عليك فعلاً؟ سنقلق نحن إن تأكدنا أن هناك عصابة تختطف الفتيات. لكن الأمن سارع لطمأنتنا بأن كل تلك الفتيات اللواتي خرجن من منازلهن، خرَجنَ طوعاً، ولا خطر على المجتمع. هي حالات فردية وعائلية.

يصدح صوت ترايسي تشابمان في غرفة الجلوس، حيث أشرع في كتابة هذه السطور عنك. تقول:
"في الليلة الماضية، سمعت صراخاً
أصوات عالية خلف الجدار
ليلة أخرى، وأنا بلا نوم
لن يجدي نفعًا، الاتصال
فالشرطة تأتي دائما متأخرة
هذا، إن أتت"(*).

مَن سمع صراخك يا غادة، من خلف الجدار، وقال في قرارة نفسه: " لن اتصل بأحد. لن يأتي أحد"؟ مَن يعلم فعلاً لمَ خرَجتِ، وكم من بؤس تحمّلِت، لكي تختاري الخروج؟

أصعب الأمور، هو الخروج، هكذا، إلى اللامكان. إلى الشارع المظلم لأنه لا حاجة لضوء الشارع، في بلد لا حاجة فيه لأي وسيلة نجاة. الضوء نجاة، يا غادة. الضوء دفء ووجهة.

أتعلمين بماذا أحلم؟ أحلم بأنك الآن في سيارة، تركض بك سريعاً سريعاً، بعيداً بعيداً، نحو ضوء ما، وأنتِ تغنين مع ترايسي:
"لديك سيارة سريعة
وأنا أريد تذكرة لأي مكان
ربما نعقد صفقة
ربما معاً يمكننا الوصول إلى مكان ما
أي مكان، أفضل.
أن أبدأ من الصفر، لأنه ليس لدي ما أخسره
ربما سنصنع شيئاً
لم أعد أريد أن أثبت شيئاً
شعرتُ براحة عندما لففت ذراعَك حول كتفي
كان لدي شعور بأني أنتمي
كان لدي شعور بأنه يمكنني أن أصبح شخصاً ما..."(**)

الفتيات اللواتي صرخن مراراً، وسمعنا صراخهن من خلف الجدار، يخرجن من منازلهن، الواحدة تلو الأخرى. فالأمر ليس فردياً ولا عائلياً. فهو يحصل مع ترايسي في أميركا التي تزج السود في منازلهم، ولا تأتي إن اتصل أحد. كما يحصل عندنا يا غادة، حين يسارع الأمن لتعودي، لأن خروجَك سافِر، ولأنك ملكية خاصة، نعمم صورها حين نفقدها، ولا نخبر أحداً إن وُجدت.

الأهم أننا مطمئنون إلى أنه لا عصابة.
لو أنهم يعلمون يا غادة، بأن "أبو كيس" و"الغول"، لا يسكنان الشوارع، حيث انتِ، بل يختبئان تحت سريرك.
___________

(*) The Wall, Tracy Chapman, 1990

(**) Fast Car, Tracy Chapman, 1988

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب