السبت 2023/07/15

آخر تحديث: 13:03 (بيروت)

هل يجرؤ الذكاء الاصطناعي على حرمان اللبنانيين وظائفَهم؟

السبت 2023/07/15
هل يجرؤ الذكاء الاصطناعي على حرمان اللبنانيين وظائفَهم؟
صورة من إنتاج الذكاء الاصطناعي في غلاف كتاب Man-Made للأسترالية ترايسي سبايسر
increase حجم الخط decrease
يُحكى منذ الآن عن عدد الوظائف التي سينتزعها الذكاء الاصطناعي من بين أيدي البشر. وتتوقّع دراسة لمجموعة "غولدمان ساكس" العالمية، صدرت في آذار/مارس الماضي، صرف 300 مليون عامل وموظف حول العالم بحلول 2030. وتَلحظ نِسَباً مئوية لمصروفين من قطاعات شتّى، منها إدارة الأعمال والقانون والبرمجة والهندسة المعمارية والخدمات على أنواعها... وثمة احتمال كبير أن تتحقق تلك التوقعات، إذ بدأ الذكاء الاصطناعي، بالفعل، يحل محل بشر في أشغالهم، بينما يسيل لعاب أصحاب الشركات اشتهاءً لذلك "الموظف" الذي لا يكل يعمل مجاناً. لكن الأرقام تبقى تكهّنات، فأمر هيمنة هذا الذكاء الطارئ ما زال مبهماً. ولا يجدينا الغوص في الأرقام منذ الآن، وإلا تحوّلت كابوساً لا نتحمّله كبشر في ظل الأزمات التي تعصف حالياً في أرجاء كثيرة من الكوكب.

وكان الاقتصادي والفيلسوف البريطاني جون مينارد كينز (1883-1946) توقّع، في 1930، أن تستولي الروبوتات على وظائف البشر بعد 100 عام، أي بعد 7 سنوات من الآن. وذلك لخيرهم، إذ تتقلص ساعات العمل إلى 15 ساعة في الأسبوع فقط. والأوقات المتبقية من الدوام يعيشونها "بحكمة ورضى ورفاه"، كما كان يظن ماينرد… نعم… منذ قرن!

خاب ظن الفيلسوف، ولم يتقلّص دوام العمل، بل ازدادت الساعات، واضطر كثيرون إلى العمل في أكثر من وظيفة نتيجة ضآلة الرواتب في مقابل غلاء المعيشة. والذين طردتهم المكننة من وظائفهم، أوجدت لهم الأنظمة في بلدانهم أعمالاً في قطاع الخدمات.

ولعلّنا نجد في هذا التحوّل أحد الأسباب لتكاثر "وظائف الهراء" التي حدّدها أستاذ الأنثروبولوجيا الأميركي والناشط الأناركي ديفيد غريبر (1961 - 2020). وهي وظائف بلا معنى أو جدوى، في نظره ونظر شريحة كبيرة من العاملين فيها أنفسهم، كما كشف الأستاذ الجامعي خلال مناقشات مصوّرة حول كتابه Bullshit Jobs.

ويقول إن معظم "وظائف الهراء" ينتمي إلى القطاع الخاص، ومن شأن غالبيتها إبراز وجاهة أرباب العمل وجاه أصحاب الشركات وتلميع صورتهم الاجتماعية وصورة مؤسساتهم. ذلك أن وظائف السكرتيرة مثلاً، ونادل المصعد، والتقني الذي يصلح أعطالاً تتكرر دائماً، ومحامي الشركة وصحافي المؤسسة والمدير الوسيط الذي يُلهي الموظفين بأعمال خارجة عن التوصيف الوظيفي فقط لكي يبدوا منهمِكين… وغيرها وظائف مشابهة كثيرة، وُجدت فقط لتبييض صفحات الأسياد وتعزيز تسلّطهم.

إذاً، خاب ظن كينز ولم تستولِ الآلة على وظائف البشر ولا قلّت ساعات العمل. لكنْ، مع قدوم الذكاء الاصطناعي وقدراته الهائلة على تنفيذ مروحة واسعة جداً من الأعمال، تتعدى المهمات الرتيبة المتكررة والتافهة، هل ستبقى هناك وظائف بديلة تتاح للمُقتَلَعين من أشغالهم؟ دعونا من التكهنات ولنتطلع إلى تلك المناطق الملتوية والوعرة من العالم التي قد تتوّه ذلك "الموظف" الماكر قاطع أرزاق الناس.

الذكاء الاصطناعي في مقابل الذكاء اللبناني
في ما يخص لبنان بتركيبته الحالية والدَرك الذي بلغه، تُرى كيف يتصرّف اللبنانيون إذا علموا أن الذكاء الاصطناعي سيحرمهم من وظائفهم؟

سيجيبون فوراً بضحكة طويلة، تتخللها دموع وحبس أنفاس واحمرار وجوه. وبين الحين والحين، تتبعها ضحكات ارتدادية مجنونة على امتداد مساحة الوطن، كلّما فطن أحدهم بما ينتظر الذكاء الاصطناعي عندما يستولي على وظائف اللبنانيين.

فلنضحك الآن كثيراً ونفرّغ سخريتنا على مصير الذكاء الاصطناعي في لبنان قبل أن نغوص في الجِد المُوجِِع.

مما سبق ووفقاً لتعريفات غريبر، نجد أن "الهُرائية" صفة لصيقة بوظائف كثيرة في لبنان، وفي كلا القطاعين الخاص والعام ومن أعلى الهرم إلى أسفله. ونجد أنه حتى ولو لم تكن الوظيفة نفسها بلا معنى وجدوى، فإن السلوك الملتوي للموظف كفيل بجعلها هراءً، تماماً مثلما يفعل المسؤولون عن إدارة شؤون البلد -زعماءَ ورؤساءً ونواباً ووزراء وإداريين- حين لا يتحمّلون مسؤولياتهم وكل يرمي فشله على الآخر. تُرى، بماذا يمكن أن يرد "تشات.جي.بي.تي" على مقولة "ما خلّونا"، مثلاً.

وأول أسباب استخفاف اللبنانيين باستيلاء الذكاء الاصطناعي على وظائفهم هو الرواتب التافهة التي يتقاضونها حالياً في وظائفهم، أكانت هرائية أم مُجدية. وقد يزيدون "مبروك يا ذكاء، حلال عليك".

وإذا كان من شأن وظائف الهراء إبراز الوجاهة والجاه وتلميع الصورة وترسيخ السلطان، كما عرّفها غريبر، فإن عدداً كبيراً من اللبنانيين، العامل منهم والمتبطّل، متاخم للهراء أو غاطس فيه. فالواسطة والمحسوبية والاستزلام والتزلّف وعدّ الشهداء و"السلبطة" بالسلاح، والرشوة، والمحاصصة والفساد والإفساد وتقاسم المغانم، وغض الطرف و"حكّلّي تا حكّلك"... كلّها وأكثر دُفع اللبنانيون إلى توسّلها استعطاءً لوظائفَ وأعمالٍ توفّر لهم، في ظنّهم، "العيش الكريم". لكنه، كما تبيّن، عيش كريم من شروطه طأطأة الرؤوس والتحوّل إلى أغنام تنتظر صندوقة الإعاشة والـ$100 والتزفيت ورضى المسؤول وحتى رضى الفسّيد… لترسيخ سلطان الزعيم وإعلاء شأنه.

وكلّها أيضاً أفرز معقّب المعاملات، والقعّيد (المتسكّع) عند مدخل المؤسسة، والفوّال بيّاع الطوابع الأميرية، والموظّف الذي لا يظهر إلاّ ليقبض راتبه، والموظّف الخفي قعّيد المقاهي، وموظّف السكك الحديد الخيالية، والموظّف المظلّي الذي يحط فوق مكتب "مدفوشاً" من الأعالي…

وكلها أيضاً وأيضاً طيّر الكفاءة من لائحة معايير التوظيف. كما جعل حتى الوظائف والأعمال المُجدية في لبنان بحكم الهرائية، لأن بقاء هذه الوظائف وبقاء العاملين فيها مشروطان بقابلية الموظف على الائْتِِمار والإِذعان والطاعة وعلى السباحة في الذلّ. وتُخصّص أيضاً وظائف معيّنة لطوائف وأحزاب محددة. وعليه، يصبح الموظف المدعوم، في السلكين المدني والعسكري، مُنْزَلاً ومهدَّداً في الوقت نفسه، فيبتعد عن أهداف وظيفتة (خدمة العامة والبلد) ليعلق في تنفيذ الأوامر وتنظيم "التمريقات"، وتوزيع الحصص من الرشاوى على المستفيدين.

على كل حال يا أستاذ غريبر، بات لبنان، ولسخرية القدر، يعتمد إقتصادياً إلى حدٍ كبير وربما كلياً، على أموال المغتربين سواء كانت وظائف هؤلاء في المهجر، هرائية أم مُجدية. والهرائية هنا تحديداً مُجدية للبقاء على قيد الحياة.

كانت هذه جردة لما جرى ويجري وللآيل إلى الاستمرار. وقد تكون جردة هرائية بالفعل لأن كل ما ورد فيها معروف… لكنه مسكوت عنه بموافقة اللبنانيين، عملاً بشعار "شو بدنا نعمل… بدنا نعيش". وهو شعار كل الفئات المغلوبة على أيدي أولياء نعمتهم المباشرين، كالزعيم، والمسؤول، ومنتج المسلسلات، والمقاول، والمفتاح الانتخابي، والفسّيد(!)، ومدير القناة، ومموّل المنصة الإعلامية… إلى ما هنالك من مواقع قادرة على التحكّم بالناس وشد الخناق.

فمن يشرح هذا كله للذكاء الاصطناعي؟ حالياً، هو لا يعمل وفقاً لكل تلك الشرابيك والعقبات. وأصلاً، لا يتمتّع بوعي يدرك به -هذا المسكين- متعة الارتشاء ونعمة الاغتناء. وهل نعيش لنشهد على المحادثة الآتية بين مهندس البرمجة المدعوم، وتطبيق zakaleb المعتمد لدى السلطات اللبنانية لإدارة شؤون البلاد؟

- المهندس: لماذا أعطيتَ الياس عوّاد 1.87% وهي حصة روم أرثوذكس في حين أن حصته كشيعي 2.31%؟
- zakaleb: إذا كنت تقصد معالي الوزير الياس عوّاد، أرجوك التقيّد بالبروتوكول المرعي الإجراء، لو سمحت.
- المهندس: نعم قصدتُ معاليه. والآن قل لي لماذا أخطأت في حصة عائدات الرشاوى.
- zakaleb: اسمه الياس! أي مسيحي والياس أقرب إلى أن يكون ارثوذكسياً.
- المهندس: راجع سجل نفوسه.
- zakaleb: مشطوب القيد الطائفي.
- المهندس: تذكرته. الياس هذا كان منذ عقود محسوباً على التغييريين ثم غيّر رأيه ولم تُسجّل عودته إلى الطائفة.
- zakaleb: إذاً، لو سمحت دلّني على طريقة أُحسِن بها اتخّاذ القرار السليم في مسألة كهذه.
- المهندس: إنه مندور إلى مار الياس.
- zakaleb: لو سمحت اشرح لي "مندور" في سياق سجل نفوس لوزير مكلّف.
- المهندس: لحظة. عفواً. العبارة الصحيحة "منذور".
- zakaleb: لو سمحت، اشرح لي "منذور" في سياق سجل نفوس لوزير مكلّف.
وإليك ثلاثة تفسيرات وجدتها.
1. نَذَرَ الشخصُ شيئاً: أوجبَه على نفسه، صدقةً كان أو إحساناً أو غير ذلك.
2. نَذَرَ نفسَه: خصّصها، فرّغها، كرّسها.
3. نَذَرَ ولدَه: جعله نذيرةً، أي قيّماً أو خادماً لمعبد.

المهندس يوقف المحادثة مع zakaleb. يغادر مكتبه. ينزل ثمانية طوابق على الدرج. يخرج من باب يجده مفتوحاً لئلا يُسَجَّل خروجُه. لحسن حظّه كاميرات المراقبة ليست مثبّتة في كل النقاط؛ وتلك المثبّتة لا تعمل كلها، لا داخل مبنى عمله ولا خارجه. ينتظر خروج زملائه في قسم التدقيق بعمل zakaleb. يُومئ إلى زميلته "الأنتيم" بأن تتبعه. يختفيان فوراً خلف كومة نفايات.

- المهندس: لدينا ثغرة.
- المهندسة: أعرف وقد قطعتُ الطريق على محاولة zakaleb تبليغ قسم الصيانة.

بلمح البصر، حضرت قوة من "فرع الداتا" التابع لمجلس الشيوخ اللبناني المَخْرَج من الطائفية السياسية، واقتادتهما إلى جهة مجهولة. وعمل zakaleb على إزالة سجلّيهما في دائرة النفوس وكل المعلومات الشخصية عن قواعد البيانات كافة. فكفّ المهندسان عن الوجود.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها