الخميس 2024/02/08

آخر تحديث: 13:07 (بيروت)

الحَيْوَنَة مدخلاً إلى الإبادة

الخميس 2024/02/08
الحَيْوَنَة مدخلاً إلى الإبادة
بحر غزة
increase حجم الخط decrease
الحَيْونَة، لتحديد القصد من العبارة في المتن أدناه، هي اعتبار الإنسان حيواناً. والتَحَيْوُن هو سلوك الإنسان كالحيوان، سواء كان إرادياً أم مَرَضياً. الغرض من هذا التعريف توضيحي.


هاجرنا، زوجتي وأنا، الى كندا للمرة الأولى في 1990. ولما نفد مالنا، تسجلنا في برنامج المساعدة الاجتماعية، بينما كنا نبحث عن عمل.

وأتاح لنا هذا البرنامج العمل 20 ساعة في الأسبوع، لتحسين الراتب الشهري. فوجّهني المركز إلى معهد الديموغرافيا في جامعة مونتريال، كوني أحسن استخدام الكومبيوتر. وهناك طُلب مني أن أُدخِل وثائق زواج ومعمودية وولادة ووفاة لسكان مقاطعة كيبيك في القرنين السابع عشر والثامن عشر.

كانت وثائق مصفرّة مُهلهلة، حُفظت بعناية ضمن أغلفة بلاستيك سدودة للهواء. العمل روتيني أكرهه، لكني كنت أجد متعة في شكل الوثيقة وحالها وملمسها، وأكثر في محتواها الذي عرّفني على أسماء أشخاص وعادات وتقاليد وإجراءات رسمية من زمن غابر.

تخيلوني أتعرّف على وليد اسمه فرانسوا لانسيليت. والده فيليب. والدته ماري بيلتييه. يوم الميلاد 8 أيار 1693. الرعية ساغْنيه. والكاهن والمختار والتوقيع…

وقبل أن أعيد الوثيقة إلى الصندوق كنت أقلّبها كي أشبع نظري بعُتقها، وبما تحمله من تاريخ عامر بأفراحه وأتراحه ورغده… وقسوته!

تسمّرتُ على الكرسي الوثير الدّوار الدرّاج ذي مساند لليدين، ورحتُ أعيد قراءة ما يلي ومفاده أن "في كنيسة رعية لانوديار، عُقِد قران جان لوك بيدار على "المتوحّشة" هياواتا بعد خضوعها للمعمودية وتسميتها برناديت بيدار". لاحقاً، علمتُ ان اسم هياواتا يعني "منبع النهر"، وهو من أسماء شعب الإيروكوا. ذلك الشعب الذي كان يحكم نفسه بنظام ديموقراطي قسّم السلطات بالتساوي بين تنفيذية وتشريعية وقضائية، تضبطها قوانين مساءلة. وقادتُه في خدمة الشعب. وكان له تأثير كبير في بنود وفقرات الدستور الأميركي المعاصر… كل هذا الرقي، وهذا الشعب (مع الشعوب الأخرى) في القارة… متوحشون؟!

هرعتُ إلى الأستاذ في الغرفة المجاورة وسألتُه. كان صادقاً في إدانة الدموية التي صبغت تاريخ نشوء بلاده استناداً الى أيديولوجيا "حتمية الاستباحة" manifest destiny بعد "حيونة" bestialisation شعوب القارة الجديدة، وكنت أجهل  العبارتين تماماً. أخيراً قال لي، مع تردد واضح إزاء ذهولي، إن المقصود بمتوحش غير متمدّن… ثم حدث أن عدتُ إلى لبنان.

في 2021، بعد سنة على هجرتي الثانية إلى كندا، درستُ كطالب مستمع، مقرّر "تاريخ كندا قبل الكونفدرالية" في جامعة كونكورديا، فتذكرتُ استاذ الديموغرافيا ذاك، قبل 30 سنة. وكنت نسيتُ أمر حتمية الاستباحة والحَيْوَنة، لكني كنت أعيشهما بين الهجرتين وقبلهما من دون أن أدري، داخل بلدي وفي محيطه. ذلك أن تجليات هاتين العبارتين وعبارة تَحَيْوُن، ليست حكراً على ما يسمى بـ "المستعمر الأبيض".

ومن خلال المقرّر، بدا واضحاً أن المستعمر الأوروبي الأبيض باشر في حيونة السكان الأصيلين، وخفّفها بالمعاملة إلى "غير متمدن" لأولئك السكان الذين تحالفوا معه. إلاّ أنهم، كبقية أقرانهم، لم ينجوا من فرض اعتناق الأديان الأوروبية والتغيير السوسيولوجي في أساليب العيش وسبله، وتغيير الاسم والكنية، وإقصاء النساء عن التدخل في شؤون القبيلة، ناهيك بالإفساد وزرع الشقاق والتأليب على كل ما يحفظ الجوهر الاجتماعي لقبيلة ما. فقد كان الأوروبيون يشترطون على أفراد قبيلة معيّنة اعتناق الدين الجديد وإحداث تغيير في العلاقات الاجتماعية لكي يمدّوهم بالأسلحة وييسّروا لهم تجارة الفراء… أما الحيونة فقد بدأت منذ الاتصال الأول بين الأوروبي والشعوب الأصيلة. اتصال أول بدأه كريستوف كولومبوس بقتل كل أطفال شعب التاهينوس، ما تُعرف حالياً بجمهورية الدومينيكان (موطئ قدمه)، لقطع نسل أولئك المتوحّشين. ثم كرّت سبحة التدمير الديموغرافي والبنيوي للشعوب الأولى على كامل مساحة القارة الجديدة وتفكيك الأسر وقتل الأطفال الذي شهدت عليه مقابر جماعية في كندا. كل ذلك الطمع والجشع والإجرام، أتى بعد أن لمس الأوروبي الأبيض ثراء الأرض وغنى الطبيعة بكل شيء يحتاجه للاستيطان والاستغلال والاستثمار.

ويكشف أيضاً المقرر المذكور أن فكرة حتمية الاستباحة قامت على أن الأميركيين البيض يمتلكون حقاً إلهيًا بالاستيطان في أميركا الشمالية بأكملها. وأفضت حتمية الاستباحة كإيديولوجيا إلى وضع مروحة من التدابير المصممة لتدمير السكان الأصليين وإبادتهم.

ونتيجة لهذه الغنيمة الكبرى، راح الأوروبيون والأميركيون يقيمون ما يُطلق عليه المؤرخ الفرنسي باسكال بلانشار تسمية "حدائق الحيوانات البشرية"، Human Zoos، وقد وثّقها في كتاب - ألّفه مع مجموعة باحثين - عنوانه التسمية نفسها إضافة إلى "أعظم العروض الغرائبية في الغرب".

ويشير هذا كتاب إلى أن تلك المعارض كانت تعرض كل الأشياء والحيوانات الغريبة والنادرة، فضلاً عن البشر من ذوي العاهات الواضحة، إضافةَ إلى… أفراد من الشعوب الأصيلة، كانوا يستقدمونهم من أستراليا وأفريقيا ومن أميركا نفسها. وكان هؤلاء الأفراد المُحَيْوَنين يخضعون للتحقير والتحرّشات والتجارب العلمية وغيرها من الارتكابات.

ننتقل إلى غزّة للإشارة إلى أن مناصرة الشعوب الأصيلة في أستراليا والأميركيتين القضية الفلسطينية، لم تأتِ من عدم؛ فكل ما ارتُكب آنذاك بحق الشعوب الأصيلة في تلك البقاع، يجري حالياً في غزة - فلسطين: الحيونة وحتمية الاستباحة وقتل الأطفال والنساء والناس والتدمير الكلّي. وكل ذلك بعدما ثَبُت غنى بحر غزّة بكميات هائلة من الغاز. وهو الأمر الذي أعاد إلى السلطات الديمقراطية رعشة اكتشاف أميركا، فقررت جميعها وإسرائيل أن تتَحَيْوَن وتستعيد جرائر حتمية الاستباحة المربحة، لكنْ هذه المرة على مرأى من سكان الكوكب.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها