الأربعاء 2023/06/21

آخر تحديث: 14:07 (بيروت)

ترميم الذاكرة المصوّرة...شانْتال برتميان: أتلفْ أرشيفاً تَمحُ شعباً

الأربعاء 2023/06/21
increase حجم الخط decrease
في شاشة كبيرة، تظهر بَكَرة فيلم 8 ملم مهترئة أكلتها الرطوبة وعلاها العفن والأملاح تغطي الشريط الذي يلتصق بعضه ببعض. وُجِدت البكرة في مكب للنفايات ووصلت إلى يدَي السينمائية التجريبية وخبيرة الأرشفة شانْتال برتميان، وهي كندية لبنانية. وكأننا، هنا، نشاهد فيلماً بوليسياً يبدأ باكتشاف جثة نُقِلت إلى المَشرحة.

اعتنت شنتال بالبكَرة ونظّفتها وأحيت محتواها الذي تضمّن مَشاهد صامتة لروّاد حديقة عامة "يُعتقد" أنها تقع شمال العاصمة اللبنانية بيروت: أمهات يدردشن ويدخّنّ السجائر على مقعد خشبي بينما يلاعبن أطفالهن فوق أحضانهن. حولهن صبيان وبنات يلعبون، وآخرون على مقربة يركضون ويتزحلطون ويتدلّون من بُنىً معدنية مشغولة لفضاءات اللهو في الهواء الطلق. وفي المحيط، رجال يتجادلون، يمجّون السجائر وينفثون دخانها بعصبية…

في ذلك الفيلم المرمّم القصير، مرّت دقائق قليلة من حياة كانت في لبنان، ربما (ربما) قبل الحرب الأهلية 1975 - 1990. وبعد استعراض سلسلة من الأفلام المرمّمة بحالتيها "قبل وبعد"، انطلقت رشقات من الأسئلة: "مَن صوّر هذه المَشاهد؟ متى صُوّرت؟ مَن هم هؤلاء الناس؟ أين تقع هذه الحديقة؟ لماذا وصل الفيلم إلى كومة نفايات؟ مَن لمّه مِن هناك؟ كيف وصل إلى شانتال؟ لماذا قررت ترميمه؟ كيف فعلت ذلك؟..

هذه الأسئلة وغيرها أجابت عليها شانتال "قدر المستطاع"، ضمن نشاطات النسخة السابعة لـ"مهرجان الأفلام اللبنانية في كندا - 2023"، أثناء إلقاء محاضرتها تحت عنوان "أرشيفات متوسطية - ترميم الذاكرة المصوّرة". وتجدر الإشارة إلى أن عبارات "قدر المستطاع" و"ربما" و"يُعتقد"، هي عبارات بالغة الأهمية لدى محترفي الأرشفة. وتُستخدم مع غيرها من عبارات الحدس والتخمين والتحفيز على البحث، عند معالجة الشرائط واللقطات التالفة التي يُعثر عليها.

فإذا لم تكن هذه موثّقة تحمل بيانات وافية تعرّف عن مضامينها، يجد خبير الأرشفة نفسه تلقائياً ينبري لترميم حقيقتها وإعادة إحيائها بما يتوصّل إليه في بحثه. ذلك أن مسؤوليته لا تقف عند إنقاذ الشرائط من التلف وتحسين وضوح اللقطات، بل تمتد إلى لملمة كل ما مِن شأنه تبديد الغموض الذي تكتنفه محتويات الأِشرطة، بكل حرص ووفاء للمحتوى.

السردية العامة تحت مجهر الأفلام الخاصة
إنها مسؤولية كشف الحقيقة بهدف إعادة وصل حلقات فُقدت، عَرَضاً أو عَمْداً، من تاريخ الناس. "هذه الحلقات الخاصة المُهملة أو المطموسة التي تشكّل جزءاً عضوياً من السرديات العامة لبلد ما أو منطقة ما، تسهم في تأكيد تلك السائدة منها أو في نقضها"، كما شرحت الخبيرة برتميان.

هي تهتم كثيراً بقضايا الهجرة والهوية والنزاعات. وتتطرّق إليها وتعبّر عنها بأفلام قصيرة وكبسولات ووسائل أخرى. كما تعمل على شرائط سوبر8 انطلاقاً من لقطات وُجِدت. وفي جعبة خبراتها المتنوعة، شهادات في السينما والأرشفة، وعدد من الأفلام بين 2007 و2023 وجوائز تقدير، فضلاً عن مشارَكات في مؤتمرات ومهرجانات سينمائية وأرشيفية ولجان تحكيم…

إلاّ أن إنجازها "كَتْساخْ"، Katsakh، في 2020، على حسابين خاصين عبر منصتي فيمييو وإنستغرام، جاء ليؤكّد مدى ضلوعها في مهمة إنقاذ الأفلام التالفة وشغفها في جعل هذه العملية شغلها الشاغل. و"كتساخ" كلمة أرمنية، كأصل شانتال برتميان، ومعناها "خَلّ". و"متلازمة الخَل"، Vinegar Syndrome، هي حالة التلف الشديد التي تصيب شرائط أفلام السيلولويد القديمة بفعل الأحماض وعوامل أخرى.

وفي معرض المحاضرة، كشفت شانتال أنها شرعت منذ سنوات في اصطياد شتى أنواع بكرات الأفلام (باستثناء الروائي منها) التي صُوّرت بين 1930 و1970 وتتضمّن لقطات لمدن وقرى تقع شرق البحر المتوسط، ضمن مشروع "أرشيفات متوسطية". وبعد ترميم التالف منها، ها هي تشارك اكتشافاتها عبر صفحات "كتساخ".

ودعتها عملية جمع أفلام سوبر 8 ملم و16 ملم إلى التفكير ملياً في نقص محتوى المحفوظات على أشرطة مصوّرة وكيفية الاعتناء بها واسترجاعها بعد المعالجة، خصوصاً أنها واجهت حقيقة أن غالبية تلك المنتجات وُجدت ضمن مجموعات في دول أوروبية وأميركية، التقطها سياح من الهواة. وتوضّح شانتال أن أجهزة التصوير بأفلام 8 ملم والبكَرات كانت غالية الثمن، أي أنها كانت بمتناول الأكثر يُسراً من أهل المنطقة والمغتربين والسياح الأجانب. وكثير من المحتويات صامت بسبب الثمن المرتفع لأجهزة التسجيل المنفصلة وأسلاكها وتثبيتاتها المعيقة.

هكذا، يتبيّن أن معظم المحتويات المصوّرة على شرائط يعود لعائلات ومسافرين ورحّالة. ومن جهة، تكون قيمتها الثمينة عاطفية، كونها تمثّل لحظات من الحميمية والخصوصية، كما تتيح للأجيال المقبلة فرصة التعرف على ماضيها. ومن جهة ثانية، تعطي ملمحاً عن بلدان وثقافات ويوميات العيش حول العالم. ومن هنا أهميتها في تثبيت السردية العامة أو نقضها وسد ثغرات الذاكرة والفائت من الأحداث وذيولها، أو أهميتها الكبرى كنشاط ثقافي وكفعل سياسي يناهض الحقائق التي تكون فرضتها القوى المهيمنة في زمن ما.

الترميم عبر الرقمنة
كل أرشيف خاص أو عام يكون عرضة للتلف والضياع ما لم يُحفظ جيداً. والعوامل الطبيعية مثل الرطوبة والحرارة والبرودة تتسبب في تلف المادة التي تُصنع منها أشرطة التصوير.

غير أن العوامل البشرية هي الأشد فتكاً بأفلام السيلولويد ومحتوياتها، وأبرزها: النزاعات والحروب، حيث يجد البشر أنفسهم متأهّبين للفرار في أي وقت. ومن منهم لديه أرشيف مصوّر لن يكون حَملُه معه من أولوياته. وقد يتعرّض للنهب والإتلاف فيضيع. وتلخّص شانتال هذه الحالة التراجيدية بقولها: "أتلفْ أرشيفاً تَمحُ شعباً". وهو الأمر الذي يكشف أهمية التشبّث بالأرشيف الخاص، لمن استطاع إلى ذلك وسيلة.

والأفلام التي يُعثر عليها في عقود لاحقة تكون أولاً في حالة هلاك ومتشظّية في أماكن لا تخطر في البال، كمكبّات النفايات وبسطات أسواق بيع العتيق أو مدفونة في أقبية مبانٍ مهجورة تتآكلها الرطوبة والعفن. أو تكون مهرّبة أو مبيعة في الخفاء، مثلها مثل الآثار والتحف واللوحات الفنية...

ويأتي الإهمال خصوصاً في البلدان غير المستقرة سياسياً واقتصادياً وحيث الثقافة والفكر يصبحان ترفاً بعيد المنال، يأتي الإهمال، بمؤازرة التخلّف ومباركة القوى المسيطرة وخطابها المهيمن، ليقضي حتى على الأرشيفات العامرة، الخاص منها والعام، فهذه تفقد قيمتها في مقابل قيمة حياة البشر المعرّضين للأخطار، وتصبح عرضة للضياع وامّحاء الذاكرة الشاهدة بالأدلّة الملموسة، لتحلّ محلّها ذاكرة شفوية تلهث لاحقاً لإثبات صحّتها.

وبسبب التوتّر وعدم الاستقرار، تفتقر تلك الأرجاء المهتزّة من الكوكب إلى عقلية استعادة ما مضى وآلياتها، إلّا لدى قلّة من الأفراد. كما تفتقر إلى المعدات والمواد اللازمة للترميم وتفعيل "الماضي" من جديد. فهذه التجهيزات والأماكن المناسبة لحفظ الأشرطة باهظة التكاليف، وصونها يستدعي وجود أهل اختصاص ومحترفين ومؤسسات ناظمة حريصة.

ولفتت شانتال أخيراً إلى دور الرقمنة في إنقاذ محتويات أفلام السيلولويد من التلف والضياع. وبعد تنظيف الأشرطة، يمكن الشروع في رقمنتها. شنتال نفسها تقدّم هذه الخدمة وتوضّح أن في الإمكان تنفيذ الرقمنة بأدوات بسيطة غير مكلفة أو باللجوء إلى شركات متخصصة. وأشارت إلى أن عدد الأفراد والجماعات الذين يتوسّلون الرقمنة للحفاظ على "كنوزهم" المصوّرة، يتزايد كثيراً.

أخيراً، ما قدّمته شانتال يجب أن يدفع المهرجانات السينمائية المتاحة للعامة على طرح ثيمة ترميم الأفلام والأرشفة، والترويج الواسع لحضور نشاطاتها. فقد أصبح باستطاعة الفرد استيعاب أهمية توثيق مجريات حياته وحفظها.

كما أن هذه الثيمة، في العصر الرقمي، باتت تعني العامة كما أهل الاختصاص، لارتباطها الوثيق بالهجرة والترحال… واحتمال فقدان كل شيء في أي لحظة.
_____________

روابط مفيدة للاطّلاع على أعمال الترميم وخدمات رقمنة الأفلام:

https://chantalpartamian.com

https://vimeo.com/katsakh

https://www.instagram.com/katsakh

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها