الأربعاء 2022/11/09

آخر تحديث: 11:46 (بيروت)

"كرز".. أو كيف ترمي مولوتوفاً ثقافياً في كندا؟

الأربعاء 2022/11/09
"كرز".. أو كيف ترمي مولوتوفاً ثقافياً في كندا؟
(المواد البصرية عن موقع مؤسسة حي حاتم علي للفنون، مُنتجة العرض)
increase حجم الخط decrease
"كرز" هو عنوان مونودراما قَدّمها مهاجرون سوريون ولبنانيون على خشبة مسرح بلدي في مونتريال بعنوان Cerise، بنَصٍّ لشخصية وحيدة باللغة الفرنسية… وللحديث الآتي عن العمل جزءان متداخلان بقوة ومتشابكان، واحد يتناول العمل ذاته وواحد يتناول أهالي كرز أو "الكرزيون"، كما أطلقوا على أنفسهم. وتحقيقه لم يكن أمراً سهلاً: حوالى 30 عنصراً تنقّلوا بين مناطق متباعدة في ظروف مناخية قاسية وفي خواتيم الحظر الكوفيدي، لحضور التمارين. جلّهم آتٍ من جحيم في موطنه الأول، وفي موطنه الثاني، يعمل في وظيفة أو أكثر ولديه مشكلاته ومسؤولياته وارتباطاته اليومية، ورغم ذلك، فرّغ نفسه مرات في الاسبوع ليلتحق بركب "كرز" الذي ظل يهيم طويلاً بلا موعد ولا خشبة للعرض حتى سنحت الفرصة بعد زهاء 10 أشهر في منتصف تشرين الاول/أكتوبر الماضي. والأسباب التي دفعته الى ذلك، طوال تلك المدة، لعلّها تصلح مكوّناتٍ لحدث نابض بالحياة يشتعل ويتوهّج كقنبلة مولوتوف مرتجَلة، تذيب حاجز الجليد بين المُهاجِر ومضيفه.

كيف تُقرأ كرز-المسار في الظروف الكندية؟ الحال الثقافية في كندا، وكيبيك تحديداً، ماضية قدماً: إنتاج الفنون عالي التنظيم يحفظ جيداً حقوق العاملين فيه. تُحرّكه أنظمة وقوانين وشروط وآليات صارمة: مؤسسات غربلة وتمويل ترعاها حكومات وشركات وجمعيات، مع نقابات شديدة الحرص على حصول المحترفين المنتسبين إليها على حقوقهم بموجب عقود… حتى آخر ملّيم. وللهواة أقنية أخرى لكنّها ليست يسيرة تماماً.

هذا يعني أن لكل مبدع منتسب طامح فرصته وحقّه من جهة، ومن جهة ثانية، أن لا مكان لإبداعات من هم خارج تلك الأوساط لا سيّما منهم الهواة العابرين.. كالكرزيين. ورغم ذلك، أبصرت مسرحية "كرز" النور، وحظيت في النهاية بتصفيق حاد من جمهور مختلط من مهاجرين عرب ومواطنين كيبيكيين.

غير أن ما أظهروه على الخشبة هو غيض من فيضهم. وكان التحدي الأكبر لهم تحقيق عمل ثقافي يتناول شؤون المهاجرين في أوطانهم الأولى ويتماهون بها مع مضيفيهم في وطنهم الثاني. فحضرت ثيمة تعنيف المرأة كقضية عميمة، ومشكلة مستمرة تعانيها نساء الأرض من الغرب إلى الشرق، ولو أنها مستترة في بعض نواحي المعمورة.

تركيبة مولوتوف كرز
كيف لإنتاج ثقافي ممتع ومفيد أن يُشبَّه بأداة تتسبب بالأذى، لا بل بالقتل؟ أوجه الشبه كثيرة: الحاجة إلى وسيلة مُرتجَلة لإثبات كفاءة الهواة العابرين وقدراتهم بسبب صعوبة الحصول على الوسائل المتاحة للمحترفين. أدوات صنع العرض من حواضر الأماكن والوسائل التي وفّرها فريق العمل. ومواد الصنع قابلة للاشتعال، أبرزها موروث من الأوطان الأولى كآثار القمع والخوف والظلم وجرائر القلق والمآسي والأحزان، وكلها معقودة على الأمل والمحبة والشغف والعزم والإصرار. مزيج من مكوّنات متضادة ومتنابذة، إذا اجتمعت في ظروف معيّنة، لا بد أن تُحدث انفجاراً "ناعماً" يعلن حضورهم في مجتمعهم الجديد. ولعلّ الاختلاف بين مولوتوف القتل، ومولوتوف كرز، هو أن فتيل هذا الأخير كان مشتعلاً قبل صناعته.

فلولا ألسنة اللهب المتّقدة في قلوب أفراد الفريق لما صمّموا على إنجاز العمل. أما المكوّنات فهي:

1. النص
من تجارب معيشة، كتبت النص عليا خاشوق، وهي سينمائية سورية كندية محترفة في أول تجربة لها في المسرح كتابةً وإخراجاً. ويروي النص حكاية امرأة، اسمها أزل، عاشت حلو العلاقة مع زوجها وعانت مرّها. امرأة عصرية مستقلة مادياً وقوية. قرّرت بعد جولات عنف كلامي وتحقير أن تدافع، في مرحلة أولى، عن خيارها وتنتصر للحب، أمام عيون من عرفوها، ولذا تحمّلت.

الحب الذي عزّزت خاشوق تأثيره من خلال مقاطع مختارة من "نشيد الأنشاد" من العهد القديم، تقاطعَ إنشادُها مع نص الممثلة وتفاعَلا درامياً. والحب في ذلك النشيد هو الحب المشتهى، لكنه صعب المنال. كما عاد النص بحكايات العنف الزوجي إلى حقبة الأم وحقبة الجدّة. وبذلك تكون الكاتبة وضعت سيرة البطلة المعاصِرة في سياق تاريخي من العنف المسترسل.

وفي الختام، تعيدنا الكاتبة إلى حكاية أزل مع زوجها، وقرار جنينها كرز بإجهاض نفسه، إثر جولات من الصراخ والتعنيف بينها وبين أبيه، لتنتهي حقبة ومعركة خسراها فسقطا أرضاً كجنديين مهزومَين يتفقدان أعضاء أحسّا بفقدانها. غير أن أزل لم تهجر زوجها فور انتهاء تلك الواقعة، فضّلت أن تحقنه بجرعة أخيرة من حبها له…

تكمن أهمية النص في أنه يطرح مسألة العنف ضد النساء، وقد باتت ممجوجة في آداب القضاء والقوانين وحركات وجمعيات مناصرة المرأة وتحرّرها، ومع ذلك ما زال هذا العنف ضد النساء مستمراً يدوم دوام ولادة الأنهار. ويبدو أن لا هدنة ولا سلام. وفي كندا، يتستّر خلف أقنعة كثيرة، لكنه حاضر هناك، يتربّص بضحاياه من شتّى الشرائح والمراتب الاجتماعية، كما تُظهره أنباء وإحصاءات ومراكز لاحتضان المعنّفات. والنص يطرح هذه المسألة باللغة الفرنسية وبالصياغة الكيبيكية، لكن بلهجة الممثلة المهاجِرة نفسها ولكنتها في النطق وبالتعبير عن مشاعرها على طريقتها. وتُليَت مقاطع نشيد الأنشاد باللغة العربية (مع ترجمة إلى الفرنسية) حفاظاً على غرابتها كنصوص أصيلة كتبت بلغات قديمة، وأيضاً توحيداً لطرح العرض وتماهيه مع الموزاييك الديموغرافي للبلد الذي يستقبل أمم العالم.

2. المكوّن الاحترافي
إلى جانب الكاتبة والمخرجة عليا خاشوق، فإن يارا صبري، الممثلة السورية الكندية المرموقة في التلفزيون والمسرح والسينما وأخصائية العلاج بالدراما، انبرت بمهنية عالية لتدريب عناصر الجوقة الهواة على تجويد النصوص وأدائها. وتابعت تطوّرهم، خطوة خطوة، وفي شكل وثيق وحرص شديد، طوال مسارهم نحو الإتقان. كما تعاونت فنّياً مع المخرجة على ضبط مجريات العرض ومساراته.

وإلى جانبهما، عايدة صبرا، التي لعبت منفردةً دور أزل، وهي ممثلة لبنانية كندية معروفة وإيمائية وراقصة ومدرّبة تعبير جسماني. وتولت صبرا تنفيذ التمارين الجسمانية والصوتية، إضافة إلى تمارين خاصة بتطوير التعبير الحر بغية تحسين الحضور وصقل مهارات الأداء.

وحرص هذا الثلاثي المحترف على تنمية المؤهلات الفنّية وتعزيز قدرات الكرزيين على التعبير.

3. عناصر الجوقة
إنهم فعلاً ركائز العرض والمكوّن المتفجّر، ليس بسبب ما قدّموه على الخشبة فحسب، بل أيضاً بسبب كل ما قدّموه قبل اعتلائها.

ابتدأ مشوار كرز عبر "زووم"، ذلك الفضاء الرقمي المقيَّد المقيت. وما إن لمعت بارقة فك الحجر الإلزامي للوقاية من وباء كوفيد، حتى فُتحت المنازل للتمارين بالترحاب، فتسلل إليها أفراد أخذ عددهم يزداد مع تزايد مصادفات آخرين ممن رغبوا بالانخراط في هذا المجهول. وفضلاً عن البيوت، فُتحت أمام العاملين أبواب دار حضانة للأطفال، فاستُغلت لوازمُها وأشياؤها الصغيرة لتشييد "ماكيت" يحاكي مكان العرض، ويُيسّر تصوّر مجرياته.

وقبل الكشف عمّن هم هؤلاء الأشخاص، تجدر الإشارة إلى أمر مهم جداً وهو أن موازنة الإنتاج مادياً كانت وظلّت تساوي صفراً بالدولار الكندي. أما موازنة الإنتاج معنوياً فكانت ضخمة، ومن أبرز بنودها الالتزام والإصرار على بلوغ الهدف. 

وأول سؤال يتبادر إلى ذهن مراقب سير العمل هو: لماذا قرر كل هؤلاء الاستمرار في مشروع مسرحي طال وقت إنجازه وهم يحملون أعباء حياتهم الحالية في كندا وحياتهم السابقة في أوطانهم؟

قد يكون السبب تعلّقهم بمشروع يجمعهم ويريحهم من تلك الأعباء. وبالنسبة إلى كل منهم، قد يكون السبب أي شيء. لكن مع مرور الوقت وتعاقب التمارين، تبيّن أن سبب تعلّقهم بـ"كرز" هو تعرّفهم على أنفسهم. فقد كان لكل منهم ومنهن قصة رواها وروتها أمام الآخرين. قصة نجاح. قصة أمل. قصة طلاق. قصة فقد. قصة حنين. قصة حرمان من عودة مشتهاة. قصة هوية ضائعة. قصة هموم تنهشهم في غربتهم. قصة من ليس لديه قصة يرويها أمام قصص الأهوال التي عاناها الآخرون.

تلك القصص التي رواها الكرزيون، رجالاً ونساء، على سبيل البوح وإرخاء الثقل عن الأكتاف، شكّلت الإسمنت الذي عزّز الالتزام والتعاطف وثبّت مداميك العمل مستقيمة بعضها فوق بعض. ومن بين تلك القصص، تقدّمت قصتان تعودان لنور، الضابط المنشق، وناصح، سجين الرأي.

كانت رحلة نور الى كندا مرعبة وكادت تقضي على عائلته وتركت ندوباً عميقة في نفوسهم على الرغم من أنهم نجوا في النهاية بفضل فعل محبة وتضامن. أما ناصح سجين الرأي، فقد قضى 15 سنة في الاعتقال ثم حملته إلى كندا مع عائلته عاطفة ومحبة نادرتان. وخلال عرض كرز، شاءت الصّدف أن يقف نور، الضابط السابق، مرفوع القامة والرأس، جنباً إلى جنب ناصح، السجين السابق، وقد استعاد وقفة العز بعد طول انكسار وانعزال… وقفا في الوسط تماماً وأنشدا مع الجوقة، "نشيد الأنشاد" نشيد الحب المقدّس.

أخيراً، امتزجت هذه المكوّنات الثلاثة لصنع قنبلة مولوتوف كرز، والشرارة التي فجّرتها كانت، كل ذلك الوقت، شعلةً تقيم في قلوب الذين صنعوها.

لعلّ في كرز-المشروع ما يحمل المهاجِرين على تقبّل وضعهم كمهاجِرين وطرح أنفسهم "همزة وصل حقيقية بين مجتمعهم الأصلي ومجتمعهم المضيف، بين ثقافتهم الأصلية وثقافة البلد المضيف… الذي جاءوا إليه طمعاً بحياة أفضل. ويعيدون اكتشاف ذلك الأمل الذي قاد حياتهم ذات يوم،" بتصرّف عن مقابلة للكاتب أمين معلوف مع مجلة "نكتار"، Nektart، سنة 2016.

بعد فرحة الإنجاز، لخّص ناصح، السجين الطليق، مغامرته تلك بالقول: "كندا كانت طوق نجاة لي وللعائلة. أما كرز فكان طوق نجاة لروحي المقيدة. أنا الآن أنا، لأني صرخت بما فِيّ من سنين على خشبة كرز"...

(*) لمزيد من الصور والفيديوهات المقتطفة من العرض، النقر هنا.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها