الإثنين 2023/06/26

آخر تحديث: 17:23 (بيروت)

الأمّية... والغشّ

الإثنين 2023/06/26
الأمّية... والغشّ
لوحة ثلاثية الأبعاد للفنانة الإيرانية الأميركية أرغافان خوسرافي
increase حجم الخط decrease
مع اقتراب موعد الامتحانات الرّسميّة، تحضرني ذكرى حادثة حصلت معي حين طلبت مني سيّدة فاضلة التّطوع لتعليم عدد من النساء القراءة والكتابة في محاولة لإنقاص عدد الأميّات في قريتنا.

كلّ شيء سار بشكل "طبيعي"، وأوّله وأهمّه تقبلهنّ ومحبّتهنّ لي. قارَب عددهنّ العشرين سيّدة تربطني بهنّ صلة قرابة مباشرة أو غير مباشرة: خالتي، عمّتي، زوجة ابن عمي، وغيرهنّ ممّن فرض عليهن، وتقرّر نيابة عنهنّ ودون سماع رأيهن، قبل الزواج، عدم الخروج اليومي الى المدرسة والبقاء في البيت للقيام بالأعمال المنزلية وتعلّم الأعمال الزراعية على اختلافها، والأعتناء بالمواشي، لزوم ما بعد الزواج.

بعد ما يقارب العشر حصص تعليمية، حددّتُ موعداً "للإملاء". طبعاً، الخوف كان ردّ فعلهنّ الأول، واستطعت، بعد مناقشة سريعة، طمأنتهن وإقناعهن بضرورة ذلك.

يوم الاختبار بادرتني إحداهنّ بقولها: لقد وضعت مبلغاً من المال في صندوق النذورات في الجامع حتّى لا أخطىء. عندها، تشجّعت سيدة أخرى قائلة: صليّت إلى اللّه أن يوفقني، وقال أخرى: البارحة قضيت ساعتين من الوقت عند فلانة (تتقن القراءة والكتابة) ساعدتني كثيراً وإن شاء اللّه لن أخطىء في كتابة أيّة كلمة.. وأنا أثني على أقوالهن وأشجعهنّ، مكرّرة قولي أنه لا مشكلة في الخطأ، بل المشكلة في تكراره، لا أحد يولد متعلّماً، أليس كذلك؟ وأنا هنا معكنّ لتسهيل هذه العملية التّعليميّة، هيّا لنبدأ...

فتحَت كلّ واحدة دفترها الخاص وأقفلت كتابها، بدأت أُملي عليهنّ الجمل الخمس القصيرة التي كنت قد علّمتهن إيّاها، وأنا أمشي بينهنّ وأنظر الى دفتر كلّ منهنّ: هذه ترجف يدها، ثانية تغمض عينيها قبل الكتابة، ثالثة تنظر اليّ لتتأكّد من صحة ما تكتب.

أما الرابعة، فأشارت إليّ لأكرّر الجملة بصوت أعلى، فتقدّمت نحوها، السيّدة التي لم تتأخر يوماً عن الحضور وتتابع بشغف واضح كلّ ما أقرأه لهن أو أطلبه منهنّ، ودائماً تقول: "من العيب ألا أستطيع قراءة وكتابة لغتي التّي علّمني أهلي تكلّمها منذ ولادتي، علّموني القيام بالكثير من الأعمال، وأنا هنا مصرّة على التعلّم، بل اعتبره ضرورياً، وقد فرضتُ على أولادي ذكوراً وإناثاً التّعلّم والحصول على شهادة". اقتربت منها، فرأيتها تفتح الكتاب وتنظر اليه، فسألتها ماذا تفعل؟ فأجابتني بصوت ناعم ونظرة حنونة : "واللّه البارحة كتبت هذه الجملة مرّات عديدة، وراجعتها في عقلي قبل النوم، لكنّي الآن نسيت كيفيّة كتابة آخر الكلمة الثّانية... سامحيني".

طبعاً، ضحك الجميع، وبدأت تعليقات السيّدات على تصرفّها، وتوافقن على أنّها الأشطر والأكثر مواظبة بينهنّ، وأنا شاركتهنّ الضحك، طالبةً منهنّ الكفّ عن ذلك والعودة إلى الكتابة.

ومع مرور سنوات على تلك الحادثة، لم أسامح نفسي على ضحكتي من تصرف تلك السيّدة. أهو تصرّف برىء لم يؤثّر في أسلوبها في تربية أولادها، مثلاً؟ أم عليّ نسيانه، خصوصاً أن كل مَن يعرفها يشهد لها ولمَن ربّتهم بالسمعة الحسنة إذ يوصفون بالاستقامة والصّدق في أعمالهم.

"المصداقيةّ والشّفافية والأمانة في تأدية مهامه"
هذه الصّفات هي أحد معايير اختيار المراقب في غرف وقاعات الامتحانات، والمُرسلة للأساتذة الذّين سيشاركون في أعمال المراقبة، وكأن الغش صار عرفاً، عليكم الحدّ منه أو منعه منعاً مطلقاً!

مع العلم انّ لسان حال الأغلبية ينطق بالتّالي: حرام هؤلاء، تلاميذ الشّهادة المتوسطة، أطفال لا يجب علينا تخويفهم أو قمعهم!
حرام، تلاميذ الشّهادة الثّانوية، ذاهبون الى الجامعة: هذه الخطوة الأولى نحو تحقيق مستقبلهم، حرام إضاعة سنة من عمرهم.. وعلى سبيل المثال لا الحصر: لقد اختاروا اختصاصاً لا علاقة له بمادة التّاريخ.. التاريخ الذي لم ينته حتى الآن النّقاش لإخراج كتاب موحّد لمادّته في المنهج من المركز التّربوي للبحوث والانماء-عقل وزارة التّربية والتّعليم العالي، أو مادة التّربية الوطنية والتّنشئة المدنيّة الّتي أنهوا وطبعوا ووزّعوا كتابها الموحّد فيما يُجمع التّلاميذ وأولياء أمورهم وأساتذتهم على صعوبة فهمه.

وثمة مَن يتساءل: ألم يحن الوقت لإعادة النّظر في مواد المرحلة الثانوية؟ وماذا ينتظرون لتغيير المناهج أو غربلتها؟ وإلغاء ما يجب إلغاؤه وإضافة ما يجب إضافته لمواكبة عصر التسارع والتنافس والتّسابق على ابتكار واختراع كل جديد؟
لذا تساهلوا أو غضّوا الطّرف أو تسامحوا أو تصالحوا مع ذاتكم أو.. لا أدري...

وتنتهي أيّام الامتحانات على خير ما يرام. تظهر النتائج وتبدأ المفرقعات النّارية المحضّرة سلفاً، احتفالاً بنجاح الأولاد والبنات. لقد تعادل من درس وسهر وعمل بجد، مع من استعان بغيره، يعني غَشّ.. لكنّه طلب المساعدة، كما يقولون ويبرّرون، في مادّة دراسيّة غير أساسيّة في الفرع الذّي اختاره، ولن يحتاجه حتّى ولو لزيادة ثقافته!

لا حسيب، ولا رقيب. الجميع مطمئن وسعيد باجتياز ولده هذه المرحلة من حياته الدّراسية بـ"يُسر". فمن يراقب حتّى يحاسب؟ الضمير في داخلنا؟ أم الضمير العام حولنا؟ وما أحوجنا لانبعاثه وانتشاره ليقضّ مضجع من يحاول، بكلّ ما يتاح له من وسائل، دفنه تحت تراب أرض نمشي عليها، وعليها سيتابع أولادنا المشي!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب