الثلاثاء 2023/06/13

آخر تحديث: 00:25 (بيروت)

عنصرية تقتات على ذاكرة الآخرين

الثلاثاء 2023/06/13
عنصرية تقتات على ذاكرة الآخرين
الفنان السوري صفوان دحول
increase حجم الخط decrease
تلك القصص عن الحواجزالمسلّحة والملثمين خلال الحرب، حفرت في أنفسنا مواقف عمّمناها على الآخرين، وأخذنا منها عِبرة. لم تكن عبرة بمعناها الحرفي والصافي، بل كانت أقرب الى حرب أتعس من سابقتها. حرب نفسية مع صدق قناعاتنا وأفكارنا التي تبنيناها لوقت من الزمن، رغم علمنا بأنها موبوءة كرائحة تلك الجثث الملقاة في الأودية البعيدة من عيون الناس.

أستعيد اليوم ذاكرة أم حسين، صديقة جدتي، التي انتظرت ولدها طويلاً حتى استبعدت عودته سالماً بعدما أكد لها شهود بأن إحدى الفصائل الفلسطينية خطفته. اصطادوه عند أول حاجز لهم في المنطقة. لم يسلم أحد من تلك الحواجز، حتى جيلنا الذي عاش هذه الحرب عبر الوثائقيات والأفلام المصورة فقط واستعبر منها، أو لم يستعبر، لأن جيل الأمس ما زال يستعرض ذاكرته التي شوهتها حواجز القتل على الهوية.

نشأتُ وسط عائلة كانت على الحياد، الا أن تلك الحواجز لم تفرق بين أعزل وآخر، عابر سبيل صودف مروره حيث السلاح سيخترق جمجمته لتبقى والدته حية تعاود تمثيل الجريمة مراراً لتثبت لفقيدها بأن الوقت لا يتكفل بالنسيان. كنت ممن لا قدرة لهم على استيعاب كل هذه المجازر، لكني أعلم أن تلك القصص كامنة في فجوة عميقة في داخلي، تزداد عمقاً كلما تفاقم حجم المأساة، وكلما ابتعدت أكثر عمّن هم، في رأي عائلتي، في ذلك الماضي، مُسبّبي الضرر الذي خلّفته الحرب. كنت أعلم بأن المخيمات ممنوع عليّ دخولها، وكنت مقتنعة بأن رعب الحرب في الداخل. لكن هناك مواقف لم أستطع تجاهلها، رغم أني كنت تحت تأثير تلك الضربة التي قضت على عائلة أم حسين. كان المخيم بالنسبة إلينا، كما وصفته تلك الشاهدة: "حاجز الأرواح". المخيم في مخزون ذاكرتنا يعني الفصائل مجتمعة توجه سلاحها نحو خيرة رجال منطقتنا. ويا له من توتر أصاب والدتي عندما علمت أني دخلت المخيم بالخطأ...

كنتُ في السرفيس، مع ركاب من سكان المخيم، ولم أستطع حينها أن أقنع والدتي بأني دخلت المخيم وخرجت منه سالمة من دون أن يتعرض لي أحد أو يعترضني حاجز. لم أمتلك النية الحسنة لأناقش والدتي وأطرد عنها تلك الأفكار المشوشة، أو أساعدها في خلق صورة مغايرة عن المخيم لا تشبه الخطف والقتل خلال الحرب. اكتفيت بالانتظار مطولاً في الشارع لأجد سيارة أجرة تقلّني، شرط أن تكون مقاعدها خالية من الجنسية الفلسطينية، فأتجنب بذلك المرور قرب المخيم... وأعوض لأمّ حسين صبيّها المفقود. جارَيت تلك الخسارة ودافعت عن المنطق السائد بأن المخيم وكر للرجال الملثمين عند حواجز الحرب. أردت أنا أيضاً أن أعادي المخيم، ثأراً للماضي ولذاكرة توارثتها عن عائلتي وأهل منطقتي.

تجنبت مواعدة ذلك الصبي الفلسطيني، مقابل التمسك بعنصرية مكتسبة. كان عليّ أن أتهرب دائماً من مواجهة حاضر مختلف، حاضر يعاقبني على مواقفي المتطرفة وانغلاقي وتعميم نتائج تلك الحرب على ذلك الفتى الذي لم يشارك مع فصائله في الخطف والقتل.

هي الحرب، لن تسلم منها، تبعثرك في متاهاتها حيث تثقلك بدمائها وجثث أبناء تلك النسوة من منطقتك. هي الحرب لن تسلم منها، لن تلعنها في البداية، لكنك ستجد نفسك كتلك الحواجز، لا تفرق أحداً عن أحد. تبرر عنصريتك بحيث لا تصدق سوى رواية واحدة عن تلك الحواجز تدعم حقدك، الا أنك بعد سنين من التخبط، سترى بوضوح حقيقة ما هو أقبح من الدماء، وهو اندماجك اللامتناهي مع خطاب السلطة والأنظمة والممولين بالسلاح والحواجز.

أما أم أحمد، فتصفها أمي بـ"الجارة الحنونة" وتحاول إسكاتي كلما تماديت بالحديث عنها بالسوء. أم أحمد، سورية. نزحت مع عائلتها الى لبنان خلال الثورة السورية، ولجأت الى الجنوب، الى القرى التي يسيطر عليها الثنائي الشيعي. لا تلتزم أم أحمد بإتيكيت الزيارات، تطرق باب بيتنا كلما سنحت لها الفرصة من دون موعد مسبق. زياراتها مطولة، ساعات، إذ لا تملّ الجلوس مع أمي. كانت تستفزني "حشكة" أم أحمد، وحاولت دائماً أن أقنع أمي برسم حدود مع صديقتها. أعلم أني أمقت الزيارات الطويلة. وأعلم أيضاً أني أعيش مع وحدتي أغلب الوقت. لكن ما لم أستطع الاعتراف به، أني كنت أمارس عنصريتي اتجاه جارة أمي. كانت أم أحمد هي التي تسأل عن حال أمي أثناء غيابي، تؤنس فراغها وتشاركها همومها في بلد يعاير الشعب السوري بمساعدات الأمم المتحدة والجمعيات.

كانت حجّة عنصريتي، أن "السوري لا يشبه ثقافتي"، وأنه أقحمنا في بلاءات حربه، وهو من هدد أمننا واستقرارنا باغتيالاته السياسية. في ثقافتي، كان زمن الوصاية السورية زمن الرشى، وفي منطقة المصنع كنتَ تستطيع تهريب حتى جثة مقابل القليل من المال. شمال لبنان وقع تحت الاحتلال السوري، وسُرق رزقه. في المقابل، احتفل أهل الجنوب بتحرير أرضهم من العدو الإسرائيلي، الا أنهم غضوا بصرهم عن احتلال النظام السوري، وتباهوا بانتصارات كبرى، مرددين: "ما صدقنا خلصت حرب تموز ورجعنا على بيوتنا، ليش الشعب السوري ما بده يرجع؟". ويا له من سؤال، لفرط إجابته الواضحة، تصبح ملغزة، فالبداهة أحياناً صعبة لا تُفهَم، أو لا يُراد فهمها.

بعد وقت، تبين لي أن ثقافة الامتيازات تلك، هي التي أقحمتني في عيب الأحكام المسبقة والتعميم، وفي عنصريتي التي دججتني بحُججٍ أنا نفسي لم أكن مقتنعة بأنها تمثلني. أم أحمد التي شرّدتها الحرب وحرمتها رؤية والدها المحتضر، وحالت بين ولدها ودراسته فاضطر الى العمل في محطة محروقات وبأجر زهيد. صديقة والدتي الحنونة التي طالبتُها بإتيكيت الزيارات، هي نفسها التي عاملتني بلطف مبالغ فيه كي تلجم غضبي اتجاهها وتحجب عنها شر فوقيتي. حرب النظام السوري وحرب مرتزقته في لبنان، هي التي وضعتني في مواجهة غير مبررة مع أم أحمد. حربهم المقدسة، وكل ذلك الخطاب الصارخ تسبب في شعوري بما لا صحة له، فكنت أتواصل مع أم أحمد وكأنها تهدد وجودي واستقلالي وهويتي.

ورغم أني ما زلت أفضل فلافل أمي، على فلافل أم أحمد وخلطتها السرية، لكني أقمت الصلح مع امرأة لا ذَنبَ لها في كل هذا الظلم والعنف. لا ذَنبَ لأم أحمد إن اضطرت لمسايرة من حولها من اللبنانيين الموالين لنظام الأسد، فهي غريبة عن وطنها ولا يعلم مرّ هذا الواقع سوى مَن عايش مُرّه أيضاً. ورغم أني لم أعد أكلف لساني بالتحريض على "الجارة الحنونة" أمام والدتي، إلا أني ما زلت أشعر بالخجل كلما صادفتها، وهي تتقدم نحوي لتغمرني بحبها وكأنها تقول لي: "أسامحك".

واليوم ألتقي صديقي "جيمي"، وأحدثه عن شعبه الذي قيل لي أنه ارتكب المجازر بنا. فهو ابن المخيم، وببوحي له كأني أعترف للمخيم كله بأسفي لأتخلص من عبء عنصريتي. لعلني أتخلى عن حربهم، وثأر أم حسين معاً، وأتسلح بجملة جيمي عن والدته: "إمي بنت المخيم وبتحب كل الناس". ختامها مسك كقلب والدة جيمي-صديقي العواد، الذي قوّاني ودفعني الى التصدي في المستقبل أمام أي شخص سيحاول ترهيبي ومنعي من دخول المخيم.
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها