الأحد 2023/04/23

آخر تحديث: 01:27 (بيروت)

"نازحات القرى" وسنوات التنمر البيروتية

الأحد 2023/04/23
"نازحات القرى" وسنوات التنمر البيروتية
اللوحة للفنانة اللبنانية ماجدة شعبان
increase حجم الخط decrease
أتذكر أيامي في المدرسة الثانوية، عندما كنت أتفاخر أمام زميلاتي في الصف بأني بعد أقل من عام سأصبح من سكان المدينة. خطوة أولى نحو الإستقلالية والشعور بالمسؤولية اتجاه مستقبلي كفتاة طموحة لا ترضى بالإكتفاء. كانت زميلاتي على مقاعد الدراسة، حتى المقربات، لا يشاركنني حماسي وانفعالي الدائم حول تجربتي المنتظرة في بيروت. فكانت إحداهن، سعادتها تتوقف على الزواج بالصبي الذي اعتادت النظر اليه منذ الطفولة، وتأسيس عائلة معه مكونة من أربعة أولاد. كانت أحاديث مرتبطة بحب المراهقة و"السترة"، عائقاً أمام تطور قناعات الفتيات وتحولهن، من خلال التضييق عليهن، حتى تمسي أحلامهن بعد إنتهاء دراستها الثانوية معجونة بمفهوم واحد فقط لا يتخطى قرارات ذاك الصبي. كنت أستمع الى قصصهن وأشعر بعزيمة المتمردة على المُقدّر في مجتمعنا. كنت أجاريهن وألهو معهن خارج بوابة المدرسة باستراق لحظات سريعة مع هذا الشاب أو ذاك، لكني كنت متيقنة بأن تلك البوابة ما هي الا زاوية لتمضية وقت ضائع قبل أن أطلّ على  الحياة من باب غامراتها الشاسعة، أي من بيروت.

عندما، كنت أتكلم عن بيروت، أستحضرها ببريق عينيّ، أصفها قبل اللجوء اليها، وأتحامى بها حين يشتدّ إحباطي. أستعد للخروج من منزل عائلتي للوصول الى الجامعة، وملاقاة زملاء تأملت بهم خيراً، قبل التعرف عليهم، وراهنت على انفتاحهم. لم أكن أعلم بأن بيروت بعد ذلك ستجعل مني فتاة حانقة، تتابع دراستها الجامعية بحسرة إذ يعاملها حيث الجميع بازدراء، فقط لأنها "بنت الضيعة". لم تكن بيروت كما تصفونها، مدينة متعددة المواهب وجامعة للاختلافات.. مدينة التلاقي والصدر الرحب. كانت بيروت، بحرمها الجامعي الكبير ومساحاتها الواسعة، تعزّز شعورنا بالضياع نحن النازحين إليها من القرى. في بيروت، عليك لا أن تبرز فقط في دراستك، بل أن تكافح من أجل البقاء وسط رفض دائم لك. عليك أن تستيقظ صباحاً وتتهيأ لسماع كل عبارات التجريح التي ستتماشى مع يومك العادي، فأذناك اعتادتا تنمر زملاء المدينة، وستدرك لاحقاً بأن السنوات الثلاث في الجامعة ما كانت سوى "سنوات التنمر".

"إجت المشلّفة". كانوا يختصرون حضوري في الجامعة في ذلك التوصيف. مشلّفة، في رأي زميلتي، لأني لم أكن من رواد شارع الحمرا، ولا الفتاة الجذابة بثقافتها، وفق معاييرهم. لم أكن الفتاة النابضة بالسهر والرقص في بارات المدينة. فأنا، في أغلب الظن بالنسبة إليهم لا تريد سوى العودة الى الضيعة في عطلة نهاية الأسبوع، حيث للسهر معنى مختلف، غير متكلف وبسيط بمشهديته، لا يفقه إهتمامات المدينة وأضواءها الصاخبة ودردشاتها المعقّدة. زميلتي المتنمرة والمتكيفة أيضاً مع رسومات فريدا ومسرحيات دوستويفسكي، غاب عنها بأن فتيات القرى لديهن من الذكاء ما يكفي لاستيعاب أقوال نيتشه وتحليل "بؤساء" فيكتور هوغو. زميلتي لم تعطِ نفسها حق التعرف عليّ من قرب، ولو فعلت لعلِمت بأني بنت عائلة لا تأبه إلا للعِلم والقراءة وتطوير الذات. لكنتُ حدثتها عن صديقتي الموهوبة والبارعة في تصميم أزيائها، لولا أن ظروف عائلتها المادية قضت ببقائها رهينة العادات، فتزوجت لأنها لم تستطع تحمل تكاليف التعليم في بيروت. اكتفت زميلتي مع الآخرين، بالجلوس على أحد مدرجات الجامعة لتصبح النكات من فتيات النزوح مادة في اختصاص المسرح. تلك المدينة التي تعزز منطق التعجرف وتسخر من خجل "بنت الضيعة" التي منعتها لباقتها من الرد بالمثل على كل هذه السفاهة.

عندما تتكلمون عن بيروت، عليكم البحث عن جوانبها المظلمة وعِشرتها المُرّة أيضاً. فتجميل الشيء إلى حد المزايدة، لا فائدة منه، والتستّر على قسوة المدينة لا يُغنيها صيتاً. إن شئتم الغوص في معاناة كل غريب عن هذه العاصمة، ستجدون أن ما تزعمونه من دفاع متمرس عنها غير صائب. بيروت، بعِلمها وجامعاتها ومتحفها الوطني وتوسع نشاطاتها الموسيقية والمسرحية، ومطالبها في الشارع وشعاراتها المتحررة، لا تعوّض حجم الضرر الذي تسببت فيه للكثيرين ممن كانوا يرون فيها الدار التي ستنصفهم وتقف درعاً بينهم وبين الخذلان. لم أكن تلك الفتاة "المشلفة" كما كانت زميلتي تنعتني، ولم أكن الفتاة التي تريد العودة الى مقاعد الدراسة الثانوية. كنت أتطلّع الى اهتمام زميلاتي وزملائي في الاختصاص، راغبة في أنسهم، وفي مشاركتهم مواضيع لم أكن أجرؤ عليها على مقاعد المدرسة. كنت أتطلع الى دعوة من قبلهم، "كزدورة" في المدينة المتنورة والتي سجّلتُ لها سيناريوهات جميلة في خيالي قبل المجيء اليها والشعور بأن ما كنت أتباهى به في الثانوية لم يكن سوى محضر وهم واستباق لتجربة كاملة لم تكن بوادرها حسنة.

"انتو بالضيعة بتناموا مع الدجاجات"، قال أحد زملائي في الاختصاص، رغم أنه ينتمي الى تلك القرى الحدودية التي يسيطر عليها حزب متطرف دينياً يحرّم فيها الموسيقى والفن. هذا الزميل، بدلاً من أن يتحرر من منطقته المتشددة، ويستبدل تلك النشأة غير المنصفة والمواقف اللاإنسانية التي عايشها في قريته، وجد في أسلوب النبذ هذا، وتبني لسان التنمر، دفاعاً يجنبه نظرات الدونية في الجامعة. مارس احتقاره لكل خلفية لا تفقه "التمدن"، ولم يكن عليه سوى أن يتكيف مع هذه الأجواء، أن يدرّب عقله على الاندماج مع مجموعة من زملاء متغطرسين ينصبّون أنفسهم "حراس المدينة" ويكرسون ثقافتهم المتمدنة لخلق عوائق نفسية لتحطيمك لتجد نفسك تدريجياً مشككاً في قدراتك ومؤهلاتك وحتى مستقبلك الفني.

كانوا يمررون فكاهاتهم الهزلية أمام فتاة ترتدي الكعب العالي، أو تضع "الروج" على شفتيها. ففي رأيهم، على طالب المسرح أن يكون مظهره "مهرجل". هم من كانوا يستغلون نزوحنا من القرى لترويض اجتهادنا، ويرون أننا غير كفوئين لدراسة هذا الاختصاص، وتنقصنا تجارب المدينة كي نرتقي الى مرتبة "فنان". في محيط طبيعي وتجربة مريحة، يفترض بك الاستمتاع خلال سنواتك التخصصية وتكوين علاقات جيدة، الاّ أنك أمام هؤلاء المتنمرين، في تحدّ دائم، أو امتحان شاق، لتثبت لهم بأنك مثلهم تجاهد لتحصيل شهادتك.

"ما بعرف ليه سجلتي مسرح، ما بيلبقلك هيدا الاختصاص".. "شكله جاي من الضيعة".. "بكرا بتتخرج وسقفها ترجع على الضيعة تعلّم مسرح بمدرستها".. صحيح أن فئة من زملاء هذا الاختصاص تبخر وجودهم وانقطعت أخبارهم، أو أنهم بالفعل عادوا الى قراهم، أحياناً بالإكراه. بغضوا الاختصاص والتزموا الصمت، فلعنوا أحلامهم التي ورطتهم في مستنقع سامّ تمكن منهم ومن مستقبلهم كفنانين.

أقول اليوم لزميلي المتنمر: مبروك عليك زواجك. يمكنك أن تكون الإثنين معاً: فناناً ومتزوجاً.. لا عيب في ما قلته لي سابقاً: "رح تتخرجي وترجعي على الضيعة تتزوجي". أنا اليوم هي نفسها تلك الفتاة التي استخففتَ باندفاعها وشغفها ومثابرتها على البقاء. غادرتُ المدينة، لكني لم أتزوج بعد. إلا أن رحيلي عنها لم يكن سببه وجود أمثالك من محتكري الفن ومستثمري قصص "نازحات القرى"، بل لأن المدينة هذه لم تعد تشبع رغباتي، ولأني في النتيجة تفوّقت عليها يوم حصّلت منها كل ما يميزها.
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها