الأحد 2023/03/05

آخر تحديث: 00:12 (بيروت)

إنسانيتنا في "فترينات" العالم الافتراضي

الأحد 2023/03/05
إنسانيتنا في "فترينات" العالم الافتراضي
(لوحة: الفنانة اللبنانية لميا غرز الدين مكارم)
increase حجم الخط decrease
أعلم تماماً ما يعنيه أن تعيش لحظات من الرعب تتمنّى فيها أن ينتهي كل شيء. أعرف تلك اللحظات التي يقترب فيها الموت، وكل ما يجول في خاطرك أنك لن تستطيع إنقاذ نفسك، لكن هل في مقدورك التضحية بها من أجل مَن حولك.

عندما كنا وسط الأوتوستراد ننتظر مَن ينتشلنا من عتمة طرق بلادنا، كنت أحتضن كلبي رغم تشنّج جسمي. عانقتُه بذراعيّ اللتين أرهقتهما "الصدمات"، بيديّ الضعيفتين والممروضتين، أردت احتواء الضربة قبل اقترابها، وكنت أفتش عمّن يرأف بكلبي، قبل نفسي. بالفعل، مرّرت له عبارات حبٍ وأسف استحضرتها وكأنها الأخيرة، كنت أستسمحه قبل أن يصطدم بنا أحدهم. ومن قوّة الضربة، وقبل أن أعي أننا ما زلنا أحياء، رغم أن السيارة تحطّمت بالكامل، كنت ما زلت أتمسّك بكلبي، ولعلّ يديّ رغم علّتهما ما زالتا تدفعاني لأؤمن بالمعجزات. لم يكن زلزالاً، لكنه فيلم رعب، عندما ترى سيارة تعلو عن الأرض لتحط في مكانٍ آخر وتشاهد مَن في داخلها ميتاً.

ما واساني في تلك اللحظة، أن مصير كلبي كان مرتبطاً بمصيري، وأننا كنا سنموت معاً. يصبح الموت في هذه الحالة عادلاً، فلا استثناء، ولا ناجي دون آخر. لعلّ كلامي هذا عن تلك اللحظات يثير دهشة البعض ممن يرون أن لا قيمة لأرواح كلابنا في الوطن العربي، وبأننا كبشر دائماً ما يتمحور كل شيء حولنا. لكن، مَن مِنّا لم تؤثّر فيه تلك مَشاهد كلاب الإنقاذ تركض لتشمّ رائحة طفل تحت الأنقاض؟ من منّا لم يتفاعل مع الكلاب التي انتُشلت من تحت هذه الأنقاض؟ ومَن منا لم تدمع عينه أمام كلب يقف فوق جثّة صاحبه رافضاً الابتعاد عنه حتى بعد موته؟

بعد الهزّة التي شعر بها الجميع، لم يكن كلبي بجانبي، ولم أكن في حاجة الى احتضانه. ونعم، لم أرتعب. حالي كحال غيري، استسلمنا لتلك اللحظات التي تطلق فيك ذلك الشعور وتحرّره أمام واقع بأنك ستموت بعد قليل. حالي كحال الأشخاص الذين فقدوا الأمل في أي نجاة في هذه البلاد التي لا تأبه لاستغاثاتهم وصراخهم. هذه البلاد التي راكمت حروبها في الأرشيف، وأوهمتنا بأننا أبطال، فقط لأننا لم نكن بين ضحاياها وأرقامها. هذه البلاد التي اعتمدت مبدأ صناديق الإعاشة والتبرعات وعلب الحليب لأطفالها، كي تتستّر على فداحة تقصيرها. هذه البلاد التي حرّضت شعبها على مقاومة فقره عبر القبول بالقليل.. بفتات خبز يضلّله عن واقع مؤجّل بأنه حتماً سيموت بعد قليل، ولن تسعفه حتى صفحات السوشال ميديا حيث التباهي بالإنسانية على أشدّه.

هل عيبٌ علينا أن نحجب المأساة عن عيوننا ولا نشارك أحداثها ولو بمقطع مصوّر؟ هل علينا دائماً أن نتباهى بإنسانيتنا على سطوح الشبكات الاجتماعية؟ هل يتحتّم علينا أن نذكّر الآخر بأننا لسنا وحوشاً غير آبهة لما يجري من حولها؟ أم هل أصبحنا جميعاً مبهورين بما يصيبنا من مكروه، فبتنا نغذي صفحاتنا الافتراضية بمشاهد تثير الشفقة، رغم أنّ ما يجمعنا نفسيّة محطّمة وعقلٌ تركلجه أدوية مهدئة؟

مَن اعتمد هذا المنطق المزيّف بأن لنا حصّة مؤكدة من كل ما يحدث؟ مَن افترض ذلك؟ أمّي ابتُليت بالمصائب وحرقة القلب على موت صبيّها، ورغم ذلك تذكرني في كل مناسبة بأن لنا امتيازات وعلينا أن نشعر بالإكتفاء ونحمده على كل شيء. هي نفسها التي كفرت بالدنيا بعد خسارة أخي فلم تعد تحمده. نعم، لدينا امتياز، وامتلكنا سقفاً ثابتاً لم تتمكن هزّة من هدمه فوق رؤوسنا، وامتيازات تحمينا من الذل. لكنّنا ابتلينا بغرق أخي، فسقط سقف منزلنا، كما سقطت كل امتيازاتنا بعد جنازته. دائماً أتساءل: لماذا لم يكن العالم منصفاً مع أمّي؟ لماذا علي أن أتناسى جروحي وألمي وأحلّق بمصائب الآخرين، فقط كي لا أشعر بالتقصير أو الذنب؟ أن أضطر الى المجاهرة بتواضعي ورحمتي كي أرضي من وظّف إمكاناته في جَلد صمتي. هؤلاء، مَن أعطاهم حق مهاجمة مَن صان "صحّته النفسية" من قسوة تلك المشاهد وحكّم سلامة عقله أو ما تبقى سالماً منها؟

كان المطلوب منّا أن نحزن ونخضع لاختبار يقيّم إنسانيتنا المعروضة في "فترينات" العالم الافتراضي، وبعدها بساعات، تتخطّى عيوننا من جلس أمام أنقاض منزله وحيداً ممسكاً بيد ابنته المتوفاة. ننسى، لأن هناك أبطالاً في السوشال ميديا أقاموا الواجب عنّا وأكثر منه، بنشر تلك الصورة وغيرها. أما نحن فامتنعنا عن مشاركتها لأننا لسنا أبطالاً في الإنسانية الافتراضية. لأنّنا ما زلنا مشوّشين وخاضعين لهموم يوميّاتنا في هذا البلد المجحف، ولأنّي ما زلت أعتني بيديّ اللتين لا تكفّان عن الارتجاف.

تسمع قصص الأنقاض، وترى كل هذه العائلات المشتّتة والخائفة، فينبّهك الدمار الهائل بأن عليك أن تتراجع.. بألا تُستدرج الى المبالغة لأنك في النتيجة لست بخير أيضاً. بعد أيام على حادث الأوتوستراد، يكفي شعور "قطعت على خير"، لأتذكر، كلّما رأيت فريق إنقاذ ينتشل أحد الناجين من هذا الزلزال، بأني أيضاً نجوت من الموت. بأني أيضاً كنت أرجو العالم أن ينتشلني من تلك السيارة، لأنه يستحيل أن أنسى صراخي "ساعدونا". التروما توقظ تروما. الابتعاد ليس قلة إحساس، بل هو الإحساس كله، الخوف الصافي.

رغم أن أخبار ضحايا الزلزال لم تعد تتصدّر أولوياتنا، ورغم أني نجوت من حادث اصطدام في أوتوستراد لبناني يشبه تلك البيوت المهيّأة للسقوط... أنا لست بخير. لست بخير لأني ما عدت أرغب في عيش دور البطل في هذه البلاد. ولأنّ يدي لن تقوى مجدّداً على إسعاف أحد. لست بخير، لأنّي لامستُ حقيقةً مُرّة بعد حادث الاصطدام: أنّ هذه البلاد لن تستعيد عافيتها، وعليّ الرحيل في أسرع وقت. والأهم، أنا لست بخير، لأن السوشال ميديا لم تعد ترأف بمن هم مثلي.. مهشّمين نفسيّاً.  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها