الثلاثاء 2023/03/21

آخر تحديث: 00:47 (بيروت)

إيمي جادِلَة الحلم...وأمي خيّاطة المستحيل

الثلاثاء 2023/03/21
إيمي جادِلَة الحلم...وأمي خيّاطة المستحيل
لوحة الفنانة الإثيوبية، هنا يلما غوداين، "صالون لتصفيف الشعر في أديس أبابا"
increase حجم الخط decrease
عندما قابلتُ إيمي للمرة الأولى، كانت تجدّل شعر صديقي. جلست جانباً وبدأت ألتقط لها الصور بعدما استأذنتها. كنت أصوّب عدستي على يديها الملمّتين بمهنتها التي بدأتها في أثيوبيا قبل مجيئها الى لبنان للعمل عند إحدى العائلات اللبنانية كعاملة منزل. لم ألتفت الى وجه إيمي في البداية، تجنّبت الكلام معها كي لا أشتّت تركيزها على خصلات شعر صديقي، وكي لا أدخل معها في أحاديثٍ مملّة اعتادتها من فتاة "بيضاء" تثني على يديها.

كانت إيمي تنتهي من خصلة، لتنتقل الى أخرى، وكأنها على عجل، إلا أنها تمرّست في كيفية معالجة الشَّعر المعقّد. تفكّكه وتلتقطه بثقة، لتبدأ في حياكته، كل خصلة بجانب شبيهتها متقنة الترتيب، كما في غاليري فنّي حيث كل لوحة معلّقة على حائط يناسب عرضها. لم أصارحها في اللقاء الأول، لم أخبرها بأن يديها استدرجت اهتمامي لأنهما فقط تذكّراني بقطعة القماش بين يدي أمّي. لم أعترف لها بأن عزيمتها وجديّتها في عملها يشبهان تلك الفساتين الجميلة التي خاطتها لي أمّي، فاحتفظت بها في خزانتي خوفاً عليها من أن تبهت ألوانها فأضطر إلى التخلّص منها. كان ارتباطي بتلك الفساتين معقّد، كتلك الخصلات بين يدي إيمي، كحال علاقتي مع أمّي ويديها اللتين لم أفوّت فرصة لألتقط لهما الصور.

عندما انفصلت أمّي عن أبي، قرَّرت أن تتعلّم فن التصميم والخياطة، فذهبت الى المدينة حيث رافقناها أنا وأخي والتزمنا معها بدوام يومي وكامل يضيف الى موهبتها شهادة تخوّلها افتتاح عملها الخاص لاحقاً. بعد طلاقها من أبي، وكأي امرأة لديها سند الأب، لم تكن في حاجة الى عمل يعيلها مادياً، لكن أرادت فرصة ثانية. بحثت عن تعويضٍ لأحلامها واستقلاليتها، عن إضافة تحميها من الإنكسار مجدّداً في مجتمعٍ لم يرحمها كونها "امرأة مطلّقة" متهّمة دائماً بخراب عائلتها.

ربّة عمل إيمي صدّت مطلبها مراراً في زيادة راتبها الشهري، فرفضت البقاء عند تلك العائلة والرضوخ "للمكتب" المسؤول عنها. هربت الى بيروت لتدافع عن حقّها ولتبدأ رحلتها في لبنان.. "إيمي الفتاة الحالمة"، لا "إيمي عاملة المنزل".

تفاخر إيمي بأنها امرأة أثيوبية، رغم المضايقات التي تتعرض لها في الشارع: "ما بتفرق معي، عم يروحوا على البحر ويدفعوا مصاري كتير على زيوت وكريمات ليصيبوا لون بشرتي".. وهي لم تتوقّع كل هذا الإقبال من الفتيات اللبنانيات على مكان عملها في طرابلس. عند افتتاح هذا الصالون، كان الهدف منه خلق مساحة خاصة بالنساء الأثيوبيات، وملجأ لهنّ ليتلاقين بحريّة، بعيداً من المقاهي اللبنانية التي تعيق تواجدهن حتى كزبائن متفرّدات ومؤهلات للترفيه عن أنفسهن بعيداً من سيطرة أو مرافقة أرباب عملهم. صالون إيمي، مساحة صغيرة حيث يستطعن العناية ببشرتهن المميّزة، من دون أن يشعرن بأنهن مختلفات بمنطقٍ جارح، بقعة تقرّبهم من وطنهم، حيث النساء يجدلن شعرهن ويُجِدن تحويل فروة الرأس إلى خريطة، والخريطة هنا تصبح رسماً لشجاعتهن في الغربة.

اليوم، وبعد ست سنوات على افتتاح صالونها، بات لديها زبونات لبنانيات. يُردن تقليد تسريحة إيمي، إلا أن غالبيتهن، عند أول موقف، تنخرط في العنصرية وتستبعد أي ألفة بين الثقافتين، كقبح هذا الكلام وانحطاط أخلاق صاحبته: "في مرة جدّلت شعراتي وطلع شكلي متل الأثيوبية. فكّيتن وما بقى عيدها".

عندما سألتها إذا كانت لديها صديقات لبنانيات، أو عن علاقة تحوّلت من زبونة عادية الى مقرّبة من دائرتها، قالت أنها لا تعلم لماذا، وبعد كل هذه السنوات، لم تحظ سوى بصديقات أثيوبيات، "رغم أني، كلما زرت إثيوبيا، اشتقت للبنان". لعلّ في هذه المرأة المهاجرة خيراً لهذه الأرض، أكثر منا، نحن اللبنانيين واللبنانيات، رغم أنّي أستغرب كلامها عن ارتباطها ببلد يهدّد أمانها كإنسانة بالدرجة الأولى، ولا يتهاون في تعذيب صديقاتها. لكن مجدّداً، هو الخير داخل إيمي، وهو الإيمان الحقيقي الذي حفّزها على عدم الانصياع لعنصريتنا وأذيّتنا.

يصادف عيد الأم في أثيوبيا في 12 أيار، الا أن يدَي إيمي الرشيقتين نبهتاني بأن عيد الأم هذه السنة في لبنان، ليس بالضرورة أن تكون بطلته أمي وحدها. في عيد الأم، نتعاطف مع أمهاتنا ونكتب عنهن ولهن، الا أن أنامل إيمي في لبنان تستحق أن تُكرّم، وهي، كبقية النساء، تستطيع فرض شروطها لتعيش وتسترزق، وتكسب ما حُرمت منه بقوة نظام الكفالة ومكاتب العاملات الأجانب.

كان لإيمي صبي سقط في المسبح وتوفي، تلك المعلومة التي أخبرتني بها بعد قراري بالكتابة عنها، جعلتني أتيقّن بأن معرفتي بها لم تكن صدفة، وأن يديها بين خصلات شَعر صديقي لم تكن سوى يدي أمّي التي في 21 آذار من كل عام، تتغنّى بحنيّة صبيّها الغائب عن عيدها.

لطالما تباهيتُ بجمال وجهك يا أمي. لطالما استحضرت دموعك بحرقة وأبكاني "وجع قلبك". طاردتُ حدادك، وكرهت سواد ثيابك على أخي الميّت، ورجوتك خلعه وأنا أعلم أن شفاءك من هذا الفراق سيكون أسرع من شفائي. تحيطني نساء يدندنّ مع وردة، ويلوّحن بأيديهن سعيدات.. أنظر اليهن وأتساءل: لماذا لم أشاهدك يوماً ترقصين كتلك النساء؟ بيديك، لوّحتِ لأخي يوم وداعه، وجسدك انهار فوق قبره. ذات ليلة، قلتِ لي أن وردة الجزائرية تذكّرك بالعِشرة الحلوة مع والدي، بالليالي الهانئة قبل أن يشكّك في إخلاصك له.

في عيدك هذه السنة يا أمّي، أتمنى ليديك أن تلوّحا على أغاني وردة مجدّداً، أتمنّى ليدَي إيمي أن تحلّقا خارج خصلات شعر رؤوسنا، أتمنى ليديها أن تلوّحا وترقصا من فرط الحب والفرح في هذا البلد. في عيد الأم هذا العام، سأرسل لإيمي أغنية وردة "إحضنوا الأيام" وأسطّر تلك الجمل: بس طول ما هو جاي بكره ربنا يعوض علينا، الدنيا لسه بخيرها والله يعوض.. ندعي للأيام تجينا والزمن هو يداوينا.. يعوض الله يعوض الله يعوض الله.
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها