الخميس 2023/04/20

آخر تحديث: 22:25 (بيروت)

أطفال المدينة المَقبرة

الخميس 2023/04/20
أطفال المدينة المَقبرة
الأطفال في بركة سمير قصير - وسط بيروت (مواقع تواصل)
increase حجم الخط decrease
قيل لي إنها الحرب، سرقت مني منزلي، ومعه ضحكاتي.
الفقد، بالنسبة لطفل، ليس اشتياقاً ولا بكاء على حب مضى أو موت.
الطفل لا يفهم الموت. ولا يحب سوى ذاته، التي منها تخرج أمه، فأبوه (أحياناً)، فالعالم.
الفقد يحصل فقط، حين يستيقظ يوماً، فيرى نفسه في منزل آخر. بين جدران ستحدد شعوره بالصقيع، إلى الأبد.

أذكر أني فقدتُ ضحكتي حين فقدتُ منزلي. وفقدت الدفء حين صرت أصرخ ليلاً، طالبة من أبي أن يلتصق بي بعد أكثر.

جدران هذه المدينة، باطون بسكاكين، تخرج منه مع غروب كل شمس، له صوت خافت يشبه صَرير الصراصير.
باطون بيروت أيادٍ سُود، تبحث، تماماً مثل "أبو كيس" عن أطفال مهاجرين، "مهجّرين"، كما كنت أقول لكل من يسألني من أين أتيت. "نِحنا مهجّرين".
تركت شجرة التوت التي كنت أقضي معظم أوقاتي وأنا أتسلقها. تركت المساحات الخضراء التي كانت تستقبل صوتي. كان صوتي عالياً، قبل بيروت.

قبل بيروت، لا أبواب مغلقة، ولا همس، ولا أسرار.
قبل بيروت، لا مقبرة للطفولة.
منذ الفَقد هذا، وأنا أخاف الأطفال. يرعبونني. كائنات فذّة، تتقيأ الحقائق. أخافهم، فأقرر ألا أُنجِبهم. بيروت ستأكل أطفالي، إن أنجَبتهم. كما أكَلَتني، أنا وضحكتي.

غريب أمر بيروت تلك. غريب كيف تلوّنت، وتغيّرت. والثابت فيها، موتها الدائم، وباطونها الذي يحارب الهواء، وسكاكينها التي باتت تخرج نهاراً لتتربص بالأطفال.
خطَّطَت بيروت، حين أعجبها موتها الدائم من دون قيامة، أن تُبقي مقابرها مفتوحة. أن تتزين بالحجارة مُرصِّعة الطرق، أن تبني شاهِد المقبرة، فنادق وأنواراً ساطعة.

وصرتُ أراقب الأطفال، وأنا أكبر من دون صوت. يحاولون أن يحتجوا، بإصرارهم غير البريء على اللعب في المقابر. الطفل ليس كائناً بريئاً، قالتها فرنسواز دولتو، وهي العارفة بأن الكون سينهال عليها، امتعاضاً. الطفل يعلم ويتصرف بحسب غريزته التي هي دائماً على حق. لكن لا دين له، ولا هوية. لعل ذلك هو جهله الوحيد.

الأطفال الذين رموا بأنفسهم في بركة سمير قصير، وسط بيروت، كانوا يعلمون بأنهم يدنسون المقابر. كانوا يعلمون بأنهم يخدشون حياء الموت، يعلمون بأنهم يلوّنون الحجارة ضحكاً، غصباً عن بيروت. ما لا يعلمونه، هو أنهم سوريون. "مهجّرين" مثلي. عاشوا الفقد ولم يسكتوا بعد.

إن كانت للمياه قدرة على الكلام، لصَرَخت فرحاً بأقدامهم. أشعر دائماً بأن المياه المقدسة، التي توضع على مداخل الكنائس، وحيدة كئيبة، لا تريد سوى أن يرشها أحد ما في الفضاء.
وقد رُشّت مياه بيروت المقدسة، حين داسها الأطفال.

عند ممارسة طقوس طرد الشياطين، يرش الكاهن الماء المقدس على الملبوس، لأن المياه تحرق الشيطان. مياه البركة تلك، أحرقت شياطين بيروت. فخرجت بسكاكينها وسوادها، حكّامها ومسؤوليها، لتطرد الأطفال من المقابر، ولتجفّف البركة من الماء... فالأطفال كائنات مرعبة، خصوصاً إن كانوا مهاجرين... وبيروت مدينة ملعونة، تقتل أطفالها، وتطارد أطفال "الآخرين". 
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب