الجمعة 2023/04/14

آخر تحديث: 18:49 (بيروت)

أحببتُ بياف أكثر مما ينبغي

الجمعة 2023/04/14
أحببتُ بياف أكثر مما ينبغي
غلاف أسطوانة لإديث بياف (حفلة الأولمبيا 1961)
increase حجم الخط decrease
لا أملك شيئاً سوى صوتي. هو الفاعل دوماً. ينفصل عني، مئة مرة في اليوم. يذهب حيث يريد، ويصل إلى حيث يريد. عالٍ. ثم يعود، يحشر نفسه داخل قفصي الصدري، يتقوقع، يتعمّق. عميق.

منذ صغري وأنا أعلم أن صوتي هو الأقرب لهويتي. لا هوية لي سواه. أنا لستُ، إن لم يكن. لكن صوتي ليس أنا. أناي تسكن مطارح أخرى. لا حيلة لي أن أصلها. صوتي ليس كليّتي، لكنه الأقرب لما أظن بأنه يشبهني.

لو كان صوتي شخصاً من لحم، لكان يشبه إديث بياف.
دَخَلت من دون استئذان. هكذا كما يدخل الهواء الرئة. لا هو يأبه بالرئة، ولا هي تعلم لماذا تحتاجه.
دَخَلت وأخذت من صوتي وجوداً موازياً لوجودها.

لا شيء يربطني بإديث بياف، سوى التماهي الصوتيّ.
يوم شاهدت فيلم، la mome، كانت الصالة تكاد تنفجر بالجمع الذي أتى ليشاهد ما قيل بأنه من أجمل ما صوّر عنها. جلستُ، وبقربي حبيب ما. نسيت حتى اسمه. وفي لحظة مصيرية، صرختُ. ورحت أبكي كما لم أبكِ يوماً. كان على الشاب الذي يرافقني أن يحملني خارج الصالة.

لم أنم تلك الليلة.
حين يخبر البعض أخبار الناس "الملبوسين المسكونين"، أي أولئك الذين تسكنهم أرواح غريبة، صدِّقوهم. لقد شعرتُ بإديث بياف تسكنني. وهي لم تزل.
شاركَتني كل ما عشته. وحين اشتاق لرؤيتها، أغني. لها. وأغني، أغانيها. فتخرج بصوتي، وأذوب أنا. وأختفي. وأصير أصغر، لكن قلبي يأخذ حجماً يكاد يشبه حجم الإكوان، إن جُمعت.
وأصلّي معها: "إلهي، إلهي، أتركه لي، حبيبي. الوقت الكافي لنبدأ، لننتهي."(*)

يسألني البعض كيف أعرّف نفسي، من حيث العمل الذي أقوم به.
المهنة أصبحت ثقلاً آخر، يُزاد على ثقل النمط، الشكل، العائلة، الأطفال.
هل أنتِ مُغنية؟
لا أملك الجواب. أخاف أن أعترف، فأقع سجينة "المهنة". وأخاف ألا أعترف، فيذهب غنائي مع الريح.
ليذهب مع الريح، إن كانت بياف تسكنه.
ما حاجتي به، مهنة، إن لم يكن، أولاً، صيرورة؟
ما نفعه إن درَّ عليّ الأموال، وكان يشبه أحداً آخر، سواها؟
صوتي لا يشبه صوت بياف. صوتي تسكنه بياف. والفرق شاسع.
وعليه، حين أغني السعادة، أغنيها غصباً عنها. وحين أغني الشجن، أغنيه وهو يجلس في حضني. أنا أغني رغماً عن..
رغماً عن البؤس. رغماً عن القبح. رغماً عن الألم.

سُئلت بياف يوماً، إن كانت تخاف من الموت، فأجابت بالنفي.
وحين سئلت عما يخيفها فعلاً، أجابت: "الوحدة".
أسكنتُ بياف صوتي، كي لا تبقى هي، وحيدة.
ولأتوقف أنا، عن الخوف.
_____________

(*) أغنية Mon Dieu، غنتها إديث بياف العام 1960 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب