الأحد 2023/02/19

آخر تحديث: 00:13 (بيروت)

صديقتي التي تروي خِتانها مبتسمة

الأحد 2023/02/19
صديقتي التي تروي خِتانها مبتسمة
لوحة التشكيلية المصرية جاذبية سري "الحياة على ضفة النيل" - 1960
increase حجم الخط decrease
قبل ذلك اليوم، كنت أتصور أننا جميعاً نبدي الاستجابات نفسها تجاه الأشياء/المواقف/الصدمات.. فمثلاً، إذا كنا في زفاف، وحولنا موسيقى صاخبة ورقص، فمن الطبيعي أن يكون الكل سعيداً. وكذلك إذا كنا في مأتم، فسيعمّنا الحزن. لكن ماذا إذا تعرضنا لصدمة أو حادث مؤلم في طفولتنا؟

قبل أعوام، كنت أصور أول فيلم تسجيلي لي، اخترت أن يكون موضوعه عن الختان وأردت أن أبرز بشاعة الجريمة التي تنتشر في مصر بصورة كبيرة، عبر قصة إحدى الفتيات التي تحكي تلك الواقعة وكيف أن صدمة الطفولة ما زالت مؤثرة فيها حتى اليوم.

اتفقت معها وجهزنا المكان والمُعدّات، واتفقنا على المحاور التي سنتطرق إليها، قبل أن تفاجئني أنها راحت تحكي ما حدث معها وهي مبتسمة، ونبرة صوتها توحي بالسعادة. قالت: "أغروني بالهدايا والألعاب والحلوى، وقالوا إن الطبيب سيجري عملية بسيطة ولن أشعر بشيء، وفرحت بالهدايا والمصروف الكبير والعصائر والحلوى.. دخلوني العمليات واتخدرت وطلعت بعدها ولقيت الكل فرحان بس كنت حاسة بوجع".

ستوب يا بنتي.. إيه ده! نبّهتها.. يا فلانة نحن نحكي عن جريمة بحق الفتيات، فتاة في عمر الطفولة لا تملك أي حق في جسدها، لا بالرفض ولا القبول، يقوم أهلها بقطع جزء من أشد مناطق جسدها خصوصية وحساسية في آن واحد، لاعتقادهم بأنهم بذلك يعفونها من الرذيلة، ناهيك عن الألم الجسدي البشع والنزيف المستمر لأيام، والألم النفسي لأن الأهل يغدرون بابنتهم في أول سني عمرها، وهو أمر بشع!

حاولت صديقتي جاهدة، مرات عديدة، أن تخفف ابتسامتها و"حبورها"، ثم صارت تحكي عن الألم الجسدي باعتيادية، كما لو كانت تخبر عن غسل وجهها صباحاً: "نعم كنت متألمة لكني ظننت الأمر عادياً، وكل بنات عائلتي تعرضن للأمر ذاته، لذلك لم أكن أعرف أنه انتهاك وأنه ضد حقوقي، إلا حينما كبرت".

والحقيقة أن صديقتي ليست وحدها مَن تبدي رد فعل بعكس المألوف تجاه صدمة كتلك. أنا أيضاً وقعت في الأمر نفسه سابقاً. فحوادث التحرش التي نتعرض لها بشكل شبه يومي في مصر، أصبحنا نألف معها ألمها النفسي. في البداية، ربما كنت أظل أياماً وأسابيع لا أغادر المنزل، وقد حدث بالفعل، ثم ينعكس الأمر على جسدي فتزداد علاقتي به سوءاً. لكن بعد سنوات طويلة من اعتياد الألم، أصبحت أحكي عن حوادث تحرش تعرضت لها سابقاً، بوجه من دون مشاعر، بل أحياناً كنت أضحك! ولا أدري ما سبب ضحكي، لكن بالتأكيد ليس لأني أعجبت بالموقف، بل لأن الجسم يعطي رد الفعل هذا بدلاً من الانهيار مرة أخرى.

علماء النفس يقولون أنه من الطبيعي أن يبدي الجسم ردّ فعل قوياً، وأحياناً بشكل عنيف، تجاه الصدمات خلال أسبوع من حدوث المشكلة. وبالتالي عند استعادة ذكرياتها، فإن ردود الأفعال هذه قد تكون عقلية/نفسية أو جسدية أو عاطفية وغيرها، وهي تساعد الجسم على الشفاء مما أصابه.

تحاول طبيبتي النفسية أن تدفعني للتعبير عن القلق الذي يعتريني حينما يصرخ فيّ أحدهم أو يرفع صوته، الأمر الذي يشكل تهديداً لي لا أعلم سببه حتى الآن، حتى لو أن شخصاً متحمساً بشكل زائد، رفع صوته، فإني أشعر بالقلق وقد أتجمد. تقول إن هناك ثلاث ردود أفعال أساسية تجاه مسببات القلق: "Fight, Flight, Freeze" (نُواجِه، نَهرُب، نتجمَّد)... وأنا كنت أتأرجح بين الأخيرتين. ربما يكون الأمر عائداً إلى صدمات تعرضت لها سابقاً. وحينما كنت أعبّر عن ردّ الفعل الأول، كانت العواقب تزداد سوءاً، لذلك، على ما يبدو، اختار جسدي أن يؤثر السلامة وحمايتي من تهديد قد يعرقل حياتي أو يدخلني في مرحلة أصعب، فلجأ إلى ردَّي الفعل الآخرَين.

لكن طبيبتي أخبرتني أن باستطاعتي رفض الفعل الذي يؤذيني، وأعبّر عن رفضي باستمراري في ذلك الموقف، وأنسحب إذا ارتفع صوت شخص ما، وأنبهه إلى أني لا أحتمل الصوت العالي وأني لن أستطيع مواصلة الحديث مثلاً.

بالعودة إلى صديقتي التي تلقت أولى صدماتها النفسية/الجسدية، وهي طفلة، فالأمر وفقاً لعلماء النفس، ربما يكون منبعه عدم الإدراك الكامل بأن ما حدث كان أمراً خاطئاً من الأساس. مثل صديقة أخرى تقول إنها لم ترَ في الختان مشكلة إلا حينما كبرت، وزاد وعيها تجاه كيانها، جسدها، عقلها وذاتها... وكيف تم انتهاك ذلك كله. وكانت كلما ازدادت معرفة بحقوقها، ازداد كرهها وغضبها تجاه أهلها... ولم تسامحهم حتى الآن.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها