الثلاثاء 2023/10/24

آخر تحديث: 15:09 (بيروت)

كسرتُ حصّالتي لدعم فلسطين

الثلاثاء 2023/10/24
كسرتُ حصّالتي لدعم فلسطين
"ما من أحد يرثيهم... سوانا" للفنانة اللبنانية جنى طرابلسي
increase حجم الخط decrease
ارتديتُ مريول المدرسة الأزرق، ضبطتُ أناقة حجابي وعدّلتُ الحقيبة على ظهري، انتعلتُ حذائي الأسود اللامع، مع الجوارب البيضاء ذات الدانتيل، وذهبتُ لصفي الأول في المدرسة الثانوية.

انتظرتُ استراحة الفسحة بفارغ الصبر، لنبدأ اللعب ونسلي أنفسنا، قبل أن تبدأ حالة هرج ومرج غير عادية. فُتحت أبواب المدرسة على مصراعيها، رغم أنها نادراً ما كانت تُفتح في هذا الوقت. صرخت فتيات كثيرات، تسابقن وتدافعن قبل أن نجد أنفسنا جميعاً فجأة خارج أسوار المدرسة.

انتفاضة المدارس
وقتها، لم نكن وحدنا من التلامذة في شارع المدارس في بلدتي الصغيرة، ففي مقابلنا كانت المدرسة الثانوية للذكور، وقد خرجوا جميعاً، وخلفنا المدرسة الصناعية التي شارك معنا تلامذتها، وأمامنا تلامذة المدرسة الابتدائية، وفي المقدمة المدرسة الثانوية التجارية للبنات.

في خلال نصف ساعة، كان شارع المدارس مزدحماً، لا تجد فيه موطئ قدَم. تلاميذ وتلميذات، لا يعرف بعضنا البعض الآخر أبداً، لكننا جميعاً مشحونون ونهتف لفلسطين. لم أكن على علم بالأخبار، لكني، في الشارع، فهمت أن انتفاضة تجري في الأقصى.

لم أكن آنذاك قد أكملت الرابعة عشرة من عمري، إلا أننا، ومنذ صغرنا، نعلم أن قضيتنا الأولى هي فلسطين وتحررها. ففي كل بيت، ركن خاص يحتوي ملصقاً للأقصى، أو للقدس، أو علم فلسطين، أو كوفية، أو أي رمز للقضية، وتُطبع روزنامة العام الجديد بصورة للأقصى مع دعوة لتحررها، وخلفية الكومبيوتر هي صورة القدس.

كنا صغاراً نهتف بحناجر ناعمة لتحرر فلسطين، ولمحمد الدرة، وندعو بهلاك الصهاينة، قبل أن يوقف التظاهرة رجالُ قسم الشرطة القابع في نهاية الشارع. فاستطاعوا احتجاز ما طاولته أيديهم من الطلاب الذكور في الصفوف الأولى، مع الفتيات. إلا أن فتياننا قاموا بمبادلة بين بعضهم البعض، ليحلّوا محلّ الفتيات داخل القسم.

وقتها، نشطت دعوات لجمع تبرعات تُرسل كمعونات مادية وعينية لإغاثة الفلسطينيين. ذهبتُ إلى البيت وأخرجتُ حصالتي حيث كنت أجمع نقودي القليلة التي أستطيع تدبيرها، ربما عشرة قروش من هنا وخمسة قروش من هناك أو ربع جنيه، جمعتُها كلها وذهبتُ بها إلى غرفة مديرة المدرسة مُقدمةً تبرعي.

أشلاء
انقطع المشهد السابق ومرت سنوات. خمس سنوات، عشر، 16 سنة، قبل أن يلقي لي القدر صدفةً أصدقاء من دول عربية مختلفة، التقيتهم للمرة الأولى في حياتي، ومن بينهم أصدقاء فلسطينيون. كان تدريباً يجمعنا في الإسكندرية، وبعد انتهائنا منه، خرجنا في نزهة على الكورنيش.

"تشبه غزة كتير"، قالت صديقتي الغزاوية عن الإسكندرية، فيما تنظر بحنين إلى البحر، وتشرد متأملةً الشارع خلفها والبحر أمامها. كانت تغبط الوضع في مصر، كيف أننا نستمتع بالبحر ونسيمه من دون عناء. نقف هكذا بأمان، وبلا خوف من قذيفة أو قنبلة تسقط على رؤوسنا فجأة. مبانٍ سكنية وفنادق ومطاعم وشوارع على شاطئ الإسكندرية، تحديداً في منطقة المنشية، تعود لأكثر من 150 عام، وما زالت قائمة، لم يمسها تغيير سوى عوامل الزمن الطفيفة وبعض الرطوبة. تقول إن هذه البيوت أقدم من دولة إسرائيل، وما زالت موجودة، فيما غالبية بيوت غزة تهدّمت وبُنيت مرات عديدة.

كانت تلك المرة الأولى التي أسمع فيها القصة الإنسانية، بلا شعارات ولا تظاهرات ولا ألعاب سياسية، ولا حديث عن أسلحة وحرب ومقاومة. الحديث هذه المرة عن طوب وحجارة، وبشر يسكنونها. وحينما يصبح بيتك، عنوانك، هو أنت.. إذا تهدم مرة، تهدمت أنت. وإذا تهدم أكثر من مرة، أصبحت أنت أشلاء إنسان، مثله تماماً. ليست مجرد مقاومة، بل ذكريات يتم محوها كلما تجددت.

نحن عندنا حياة
أمهلني القدر الحظ، ليس لزيارة غزة التي تمنيت، لكن للذهاب إلى الضفة الغربية. وقتها، كانت الصور في ذهني نمطية، بسبب الإعلام والروايات الرسمية من الأطراف كافة، وكانت الجملة التي علقت في ذهني لإحدى الفلسطينيات: "نحن عنا حياة".

قطع.. المشهد الآن في 2023، وبعدما أصبح لي العديد من الأصدقاء من فلسطين.
فلسطين الآن لم تعد قضيتي فحسب، بل أصدقائي أيضاً، تربطني علاقة شخصية بغزة.

الصور من غزة موجعة ومرعبة. قبل عشرة أيام، حاولتُ التواصل مع أصدقائي للاطمئنان عليهم. علمتُ أن إحدى صديقاتي فقدت ثلاثين فرداً من عائلتها. هؤلاء ليسوا أرقاماً. كل شخص هو إنسان، عائلة، أصدقاء، أحباب، زملاء، ذكريات. فكيف بثلاثين من عائلة واحدة؟ بهذه البساطة؟

وعاودتُ التواصل مرة أخرى للاطمئنان. لم تصل الرسالة هذه المرة، فدارت في رأسي سيناريوهات، حاولت ألا أتركها تسيطر عليّ. هل قُتل أصدقائي؟ الشباب في عشرينياتهم وثلاثينياتهم وهم لم يروا من الدنيا أي جميل بعد؟

أخيراً، أجابوني جميعاً في وقت واحد تقريباً. تطمئنني إحداهن أنها بخير وهربت مع الأطفال إلى مكان آخر. تستحي وهي ترسل لي صورة تأخذ الكثير من الوقت ليتم تحميلها، وتعتذر عن الصورة التي تضم صغاراً يتناولون فتة الكوسى بلا لحم، وبملابس متسخة، وأثاث أرضي في منزل من الطوب والأسمنت.

عزيزتي... أنا من يجب أن يعتذر، عن العجز، ولأني أتناول طعامي في شقة هادئة مطلة على النيل، وأنتم محرومون من بحر غزة. أعتذر أني في أوضاع مستقرة، بينما في داخلي بركان من الغضب وقلة الحيلة، ثم يطلب مني العالم أن أبتسم وأكمل حياتي، بشكل عادي، كأن شيئاً لا يحدث. هنا أقول "أحا" التي قالها باسم يوسف لبيرس مورغان.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها