الأحد 2023/09/10

آخر تحديث: 00:01 (بيروت)

دخلتُ البار بحجابي

الأحد 2023/09/10
دخلتُ البار بحجابي
لوحة للفنانة المصرية إيمان أسامة
increase حجم الخط decrease
كانت إحدى الليالي الصيفية التي تسهر فيها القاهرة حتى الصباح، وكانت لي صديقة هي نافذتي على عالم لم أعرف عنه سوى القليل من خلال الروايات والقصص. سألتني: "هنروح بار/حانة في وسط البلد تيجي معانا؟". كان سؤالها مباغتاً وغريباً، كيف لفتاة مثلي ترتدي الحجاب والزي المحتشم أن تذهب إلى مكان كهذا؟

تحمستُ فوراً. فقبل تلك الفترة بأشهر قليلة كنت قد أخذت عهداً على نفسي أن أنفتح على كل التجارب المختلفة لأشاهد من بعيد كيف تبدو تلك العوالم، بدلاً من رفضها من مجرد مشاهدة خارجية. أردتُ الاقتراب منها ودراستها.

سألتها: "والحجاب؟". قالت إنه أمر عادي، وأني بصحبتهم، وهم زبائن معروفون في هذا البار وهو أحد بارات وسط القاهرة القديمة التي لطالما أردتُ بشدة أن أذهب إليها. لطالما رأيتهم من الخارج، متمنية ولو دقيقة أدخل فيها إليهم، وأشاهد ذلك العالم الذي حكى عنه الكثير من الأدباء والمثقفين والساسة في رواياتهم وكتبهم. نجيب محفوظ وأمل دنقل وأحمد فؤاد نجم، وغيرهم. فهم حالة خاصة يحكي كل ركن فيها قصة.

دلفتُ إلى البار في شارع هدى شعراوي، وأنا أختبئ خلف صديقتي خائفة من تلك الصورة النمطية، كأن أرى أحدهم يمسك زجاجة خمر ويترنح قائلاً "أنا جدع". من الوهلة الأولى، لاحظنى الجميع، لكن أحداً لم يضايقني، وأنا لم أجرحهم بنظراتي. طلبَت صديقتي وصديقها البيرة، المشروب الرسمي لبارات وسط القاهرة، وجاءت "المَزّة" وهي مجموعة من المقبّلات مثل الترمس والخضروات المقطعة التي اكتفيت بتناولها.

كان ذهني ظاهرياً مع أصدقائي، لكن عينيّ فعلياً راحتا تتأملان وتبتلعان كافة التفاصيل من حولي، بفضول طفولي وخوف وتردد. فكنت أنظر ناحية الباب من حين إلى آخر، لكن لولا تقبل وجودي في ذلك المكان وفي تلك اللحظة، كفتاة ترتدي الحجاب، لما انفتحتُ بعد ذلك على كافة التجارب المختلفة عني.

كان ذلك الباب الماهوغني بعمر 120 عاماً في شارع هدى شعراوي، بمثابة ما قاله نجيب محفوظ: "قد ينفتح الباب ذات يوم لمن يخوض الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة".

عشت فترة غريبة من التناقض والتقبّل في آن واحد، لم تناقشني صديقتي نهائياً في أمر الحجاب ولم تضغط عليّ لفعل أي شيء ضد مبادئي وقتها، لكنها أرادتني أن أرى عالماً آخر، عالم "الناس اللي تحت" الذين عشت حياتي كلها قبل تلك اللحظة لا أتقبلهم وأخشاهم وأحياناً "أقرف" من وجودهم وأرفضهم وأحاربهم وأكرههم.

جلست مع أصدقاء صديقتي وهم يدخنون الحشيش ويشربون الكحول ويرتادون بارات وسط القاهرة، الرخيصة والشعبية. كنت أكوّن ذاكرة بصرية ومعرفية، تلك التجارب زادت من تقبّلي وفهمي لذلك العالم ومكنونات الآخر، الذي لم يكن شيطاناً كما حسبت.

بعد أعوام تغيّر وعيي عن الحجاب نفسه، بعدما قرأت كثيراً عنه وعن تفسيرات مختلفة، وبعدما وصلت لمرحلة صارت أقل قطعة منه حول رقبتي أو شعري تكاد تخنقني حتى تتقطع أنفاسي، إلى أن اتخذت القرار بالتوقف عن ارتدائه نهائياً، وبلا رجعة.

وبقدر ما شكّل قراري صدمة لمن حولي، وددتُ لو أخبرهم جميعاً أن يكونوا منفتحين لتقبّل الجميع، لكني أنا نفسي لم أفعل هذا الأمر، فذهبت من الأقصى للأقصى، وزادني هجوم المقربين مني كرهاً وبغضاً للحجاب ولمرتاديه، وودتُ لو لم أذهب إلى أماكن فيها محجبات طالما أن غالبيتهن بتلك العقلية... وانخرطت في أكثر من "شلة" من المنفتحين، إحداها تشترط عدم وجود محجبات بيننا، وإذا وجدت واحدة رغماً عنهم، لفظوها فوراً.

هي الشلّة نفسها التي سخرت قبل أيام من محجبة ترقص على العامود، ومن محجبة في مسابقة ملكة جمال مصر. واحتدم النقاش في "الجروب السري" حول الحجاب من الأساس، وهل يمكن لمحجبة أن تفعل ذلك كله، وهو السؤال الذي ترجمته: "هل يمكن أن تعيش المحجبة؟".

ذلك النقاش أعادني ثمانية أعوام إلى الوراء، حينما لم يُقصِني أحد عن دخول أماكن كانت ممنوعة على أمثالي، لكنها شكلت جزءاً رئيسياً في تغيير وعيي. وتنبهت أني، أنا أيضاً، تحولتُ من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وهو أمر طبيعي في التحولات الفكرية للإنسان، قبل أن يصل إلى مرحلة التوازن التي عليه فيها أن يتقبل الآخر من دون أن يفرض وصايته عليه في ما يرتديه أو يخلعه أو يأكله أو يشربه أو يقرره لحياته.

فلا محجبة في مسابقة ملكة جمال مصر ستحدث الفتنة، كما يدّعي المتشددون، وكما يرفضها المتحررون، ولا شابة محجبة ترقص على العامود ستسبب كارثة نووية، ولا مراهقة محجبة تقبّل حبيبها في الشارع خلسة ستجرح مشاعر أحدهم. وكل تلك المشاحنات الفايسبوكية تؤكد كم تم اغتصابنا فكرياً في مصر خلال نصف القرن الأخير، لتعطي الحق للجميع في أن يكون وصيّاً على الجميع، ممن يعرفهم أو لا يعرفهم، ويتحكم في حياته.

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها