الجمعة 2023/08/11

آخر تحديث: 00:26 (بيروت)

الثانوية العامة...الكابوس مدى الحياة

الجمعة 2023/08/11
الثانوية العامة...الكابوس مدى الحياة
"النمر والقرش وأنا نجلس لاحتساء الشاي"، للبريطانية إيما هادو، التي عانت التروما والقلق منذ سن المراهقة
increase حجم الخط decrease
وضعتُ ساقاً فوق أخرى وأنا أنظر إلى أمي أقول لها: "لو الوزير اتصل، قولي له إني مش فاضية، يكلمني وقت تاني". في مصر، لدينا تقليد أن يتصل وزير التربية والتعليم بالأوائل على الجمهورية ليهنئهم بنفسه. كنت أعلم أني لا أوائل ولا يحزنون، ومع ذلك، كنت أخفي قلقي بهذا المزاح ثقيل الظل.

كررتُ المزحة في عامَي الثانوية المتتاليين. تنظر أمي وأقاربي إليّ كل مرة، وهم في تعجّب وامتعاض. كيف لا أظهر قلقة، ولا أجوب الغرفة جيئة وذهاباً، أو أصلّي ليل نهار وأبكي في غرفتي والحمّام، ولا أدعو الله أن أحرز أعلى الدرجات؟

كنت طالبة متفوقة، لكني لست من الأوائل. لطالما اكتفيت بما أعلم أنه يحفظ لي النجاح، ربما في الترتيب المئوي ضمن المدرسة، أو العُشري داخل الفصل، أو الأولى لنفس "الدكّة". المهم أني دخلت كلية الهندسة وأحرزت أكثر مما تتطلبه بـ12 درجة.

"وليه أقلق وأتوتر"؟... كان الجميع يتعجب من مذاكرتي فيما أحتضن الكاسيت نهاراً، أستمع لشرائط إيهاب توفيق وهشام عباس وحميد الشاعري، وفي الليل اشغّل إذاعة "راديو سوا" التي اشتهرت في مطلع الألفية لتسليني أثناء مذاكرتي. فتقتحم أمي الغرفة صارخة بينما أمسك كتاب الكيمياء التي كنت أذاكرها أكثر من المدرس نفسه، وأنا أرقص على "بدي دوب" لإليسا أو "يا غالي" لفرقة جيتارا الكويتية، أو أغنيات فرقة "واما" وغيرها.

تضرب أمي كفاً بكف، ثم تزمجر راجية إياي أن أخرج من مرحلة "البرود" تلك، لأقلق بشأن مستقبلي، لكن شيئاً لم يعكر تلك الحالة التي وصفتها بالبرود، سوى أني كنت مجبرة أن أقضي طفولتي ومراهقتي أطحن الكتب مذاكرة ليلاً ونهاراً، وليس بالطريقة التي أراها مناسبة وإنما بالطريقة التي يراها من حولي أنها فقط "المناسبة"، وأني ينبغي أن أذاكر بطريقتهم وأرِث اضطراب القلق مثلهم.

يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، تسلل القلق إلى داخلي. حاولتُ التمسك بطريقتي القديمة ولم تفلح، وهذه المرة كان الضغط شديداً، خصوصاً أني مقبلة على امتحان الفيزياء، "بُعبع" الثانوية العامة. فالتهب قولوني العصبي، لا سيما زائدتي الدودية، من دون أن أعرف ما بي بالضبط، وتغيبت ثلاثة أيام في ألم متواصل وشديد، وتناولت مسكنات عديدة بلا جدوى، وضاعت تلك الأيام في محاولة النجاة... بكيت كثيراً، إذ لم أعلم إن كنت سأصمد لليلة الامتحان أم لا.

لم يتبقّ سوى يوم واحد، استطعت خلاله لملمة المراجعات النهائية فقط، وذهبت إلى الامتحان وأنا متكئة على يد أمي. لم تكن في بلدتنا الصغيرة أي وسيلة مواصلات ولا تاكسي، كما أن المدرسة تبعد عن البيت 500 متر فقط، لكني قطعتها في حوالة نصف ساعة، أسير 50 متراً ثم أرتاح قليلاً، وهكذا حتى وصلت المدرسة وأديت الامتحان، ولحسن حظي جاءت الأسئلة من الوريقات التي راجعتها.

وقتها تمردتُ على الشكل المطلوب مني أن أكونه في دراستي، ثم أصرّيت أن أقيم فترة امتحانات الكلية في القاهرة، بعيداً من بيت العائلة حتى لا أتعرض لأي توتر أو ضغط من أحد.

تخرجتُ من الجامعة ومن الثانوية. وفي كل عام، في شهرَي يونيو ويوليو، تراودني الكوابيس ذاتها. إما أني متأخرة على امتحان ما، أو أني نسيت أن هناك امتحاناً، أو أني جالسة في اللجنة وأمامي الأوراق لكني لا أرى كلمة واحدة، تتداخل الكلمات في ما بينها، أو أني في يوم النتيجة ونتيجتي تُحجب أو تختفي، وغيرها... عشرات الكوابيس التي أصحو منها فزعة ومُتعرقة، متقطعة الأنفاس، ومصابة بنوبة ذعر.

وهذا العام، وفي "الموسم" اياه، ورغم أني تخرجت من الثانوية العامة منذ 20 عاماً، ثم من الكلية التي أريدها، ثم عملت في المهنة التي أحبها،... إلا أني ما زلت أشعر أن عليّ القلق من شيء ما، من امتحان ما، أن أعيش في حالة قلق دائمة. لم أعد أفاجأ حينما تخبرني كل طبيبة نفسية أزورها، أني مصابة باضطراب القلق. ولم أتعجب حينما احتضنني صديق فجأة، وبلا مقدمات، خلال زيارتي له، فقضيت بقية اليوم أخفي ارتعاشة جسدي من القلق، وعيناي تبحثان عن مَخرج آمِن من النافذة أو الباب.

كما لم يفاجئني أن تلك الحالة لا تصيبني وحدي. فالعشرات من أصدقائي يصيحون عبر حساباتهم في فايسبوك وتويتر. تخرجوا منذ سنوات طويلة، وما زالت كوابيس امتحانات الثانوية العامة تطاردهم كل عام، في التوقيت نفسه.

أما عن التفسير العلمي لما يحدث، فالأرجح بحسب بعض النظريات، أن ضغوطاً نتعرض لها في حياتنا الراشدة، سواء في الوظيفة أو البيت، تذكرنا بتلك الضغوط حينما كنا أبناء 17 أو 18 سنة، وعندما أرعبنا الفشل أثناء اختبارات الثانوية. وربما يعني توأمة القلق هذه، أننا لسنا مستعدين لخوض اختبار ما في الحياة، فيأتي الحلم بأننا في لجنة امتحان نُفاجأ به، أو أننا رسبنا في امتحان لم ندخله من الأساس، كالاختبارات التي تضعنا فيها الحياة إجباراً وليس باختيارنا، ثم نجد أنفسنا وقد فشلنا فيها بطريقة أو أخرى.

الأمر في النهاية يتعلق بمنح مشاعرنا فرصة للتعبير عن نفسها بالصورة التي اختارتها قبل أن نكبتها قبل سنوات طويلة، مسألة تحرر من الضغوط، حتى نشفى من اضطراب قلق الامتحانات... ثم اضطراب قلق الحياة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها