السبت 2022/12/10

آخر تحديث: 15:50 (بيروت)

...وقد ترعرعت في السفارة البرازيلية: أنا كاريوكا!

السبت 2022/12/10
...وقد ترعرعت في السفارة البرازيلية: أنا كاريوكا!
كرنفال ريو دي جانيرو (غيتي)
increase حجم الخط decrease
منذ أن استطاع عقلي الصغير أن يهجىء الحروف، ازدحم بحروف برتغالية الصنع، برازيلية اللكنة. ومع الحروف، تأتي الألوان والموسيقى ورائحة البنّ.

الفكر قبل اللغة؟ لست أدري. لكن الصيرورة مرتبطة باللغة حتماً. وحين كنت أقف على علوّ أعوامي الست، كنت أتكلم البرازيلية. كنت برازيلية. وما زلت.

انتمائي لثقافة هجينة وغريبة على ثقافة اليمين المسيحي المتطرف الذي ترعرعت في كنفه، أنا إبنة "الأشرفية والقضية"، جعل مني مخلوقاً عجائبياً بعض الشيء. موبوء، ربما. مع إيمان أمي القاطع، بأن تلك العلة التي أشكو منها، ستزول. عليّ أن أعود الى مسيحيتي وقضيتي. عليّ أن أتعلّم الصمت.

وكانت على حق. أقلّه حين كنت أعود الى بيتنا في مار مخايل، حيث كنت أصمت. بيتنا يعني ذاكرة الحرب. والموت. ذاكرة الشهداء والملابس السوداء.

كنت أعود الى الانتماء اليميني بعد عطلة نهاية كل أسبوع، والتي كنت أقضيها في السفارة البرازيلية، حيث كانت أخت عرّابتي سكرتيرة السفير البرازيلي، وقد أعطتها الخارجية البرازيلية بيتاً في مقر السفارة وكانت آنذاك في منطقة بعبدا.

كنت أنتظر نهاية الأسبوع، وعطلة نهاية العام الدراسي، كمن تنتظر الماء في صحراء. كطفلة لا تريد سوى دفتر التلوين وأقلام كثيرة، تلوّن بها نهاراتها البيروتية الفاحمة. ما إن تطأ قدماي السفارة، حتى أتحول إلى كائن آخر. تنبت لي أجنحة، وبها أتسلق شجرة الميموزا التي تزين المدخل. أتذكر بأنني كنت أتعرى من الأغلال الموضوعة حول عنقي، لأصرخ من أعلى الشجرة لكل عصفور يطير أو يحطّ.

تعلمت الفرح لأنني عشته. وكان برازيلياً.
كل ليلة جُمعة، يجتمع دبلوماسيون، وموظفون وعمال تنظيف وطباخون، في بيت عرّابتي. يأكلون ويشربون الكايبيرينيا[1]، وانا أراقب وأضحك. يرقصون. لم تكن هناك مناسبة للرقص. كنا على موعد معه، كلما التقينا، أو لم نلتق.

كنت، صباح كل سبت، أخرج اسطوانة "اجيبي" [2]Agepe وأهرع لفتح شمسية ملونة، لأرقص الـ"فورّو"[3]. كنت أرقص كل الوقت. حتى في نومي، كنت استيقظ لأجد اللحاف والوسادة على الأرض... "كنتي عم ترقصي" تقول عرابتي ضاحكة من منامي، وكأن ما قمت به بديهي لدرجة يصبح معها كالهواء. ليصبح الحقيقة الوحيدة التي أنتمي اليها، أنا، وكل من دخلت الثقافة البرازيلية في مسام روحه.

عاشقة أنا. أعشق السامبا. وأكواب القهوة التي تنسكب في الحلق، حلوة لشدة مرارتها.
البرازيلي لا يشرب القهوة في فنجان. بل في كوب كبير. القهوة حياة، يقولون لي. سمراء مثلنا. حارّة مثلنا. البرازيلي لا يخاف الضجر. ولا الملل. كانت الحكايات تنسكب وأقداح الكايبيرينيا، ومانويل، الذي سيصبح صديقي المقرب رغم فرق السن الشاسع بيننا، سيأخذ بيد عشيقه، ويرقصان معاً. وأنا اراقب الحب. يتغلغل هو أيضاً في مسامي. ليكبر معي، محرراً من قيد وشرط وجنس وجندر.

البرازيلي شعب شغوف. يحب وهو يتأوه ألماً. يحب الحب، كما كان مانويل يقول لي دائماً. نأكل كمن لم يأكل من قبل، أطباق الفاصوليا السوداء ولحم الخنزير والـ"فاروفا"[4].
نخيط أحلامنا معاً: الدبلوماسي يخبرني بأنه يريدني زوجة لابنه. مانويل يريدني شاهدة على زفافه من لوكاس. ماريا تريد أن تخبئني في شنطة سفرها، لأزور معها حدائق "تيريزوبوليش"، شمالي ريو دي جانيرو، حيث يقع معسكر تدريب منتخب البرازيلي في كرة القدم.

صرت أحفظ أغاني الحب البرازيلية عن ظهر قلب، وأغني كل ليلة جمعة، خصوصاً أغنية "اجيبي" Moro Onde Não Mora Ninguém (أعيش حيث لا يسكن أحد).
كان البعض يبكي. والبعض الآخر يحلف بآلهة الـ"اييمانجا[5]" أن روحي ولدت على سفح شلال في البرازيل، وأن عليّ أن أعود إليها. كنت أغني بكثير من التراجيديا، كمن عاشت ألف قصة حب، وانكسر قلبها آلاف المرات. وكنت أبكي معهم. وكأن مصاب العاشق هو مصابي. نحن مصابون معاً، نعشق ونبكي، جمعاً.

لكنتي لكنة الـ"كاريوكا"، أي سكان ريو دي جانيرو، التي تختلف عن لكنة أهل برازيليا وساو باولو. وحين أعود للمدرسة، يوم الإثنين، كنت اقول للمعلمة بأنني "كاريوكا". تنظر إليّ باستغراب. تبتسم وتظن أني اختلق كلمات لا وجود لها. خيال الأطفال لا حدود له. لكني لم أكن أتخيل. كنت أعيش الخيال. وكان حقيقة ستظل حقيقتي، حتى لحظة كتابة هذه المدونة.

حين يسألني البعض عمّن أشجع في المونديال، أضحك. ثم بكثير من السخرية أجيب: "ليش في غيرن؟". هل هناك غير البرازيلي يبكي رقصاً؟ لم نتحدث يوماً، نحن المجموعة التي سقطت معها طبقية العالم كلها، كل ليلة جمعة، عن كرة القدم. كانت الرياضة تلك "تحصيل حاصل". هم يرقصون. وإن حدث وسجلوا هدفاً خلال الرقصة، نبتسم فخراً. وإن لم يسجلوا، نشاهد رقصهم، وهذا كافٍ لفرحنا.

أذكر العام 1994، حين فازت البرازيل بكأس العالم. كنت حينها أشاهد المباراة في السفارة. وفور انتهائها، كأن إعصاراً ضرب منطقة بعبدا. آلاف البشر تجمعوا فجأة أمام المدخل. اتصل بنا السفير. لم نكن نعرف ماذا نفعل بهم. أضأنا أنوار السفارة كلها. تسلقنا السياج وأمسكنا أيدي الناس التي كانت تبكي وتغني وتصرخ.

تلك الليلة، علمت بأن الداء الذي أعاني منه، سيلازمني ما حييت. وبأن أمي لن تسترد المسيحية اليمينية يوماً. مَن يعرفني، يعرف بأنني أرقص، رغماً عن كل ما أشعر به. فأنا برازيلية الروح. ونحن نرقص. لأننا أحياء. لأننا لا نملك سوى الحتمية تلك. سوى العلة تلك. وهذه العلّة، مُعدِية.
___________________

[1] هو الكوكتيل الوطني  البرازيلي، المصنوع من الكاشاسا (الخمور الصلبة لقصب السكر) والسكر والحامض 

[2] Antônio Gilson Porfírio مغني برازيلي عرف باغانيه العاطفية

[3] الـ"فورّو" هو نوع موسيقي وايقاع ورقصة. تعد ال "فورّو" Forró جزءًا مهمًا من ثقافة المنطقة الشمالية الشرقية للبرازيل.

[4] نوع من الوجبات المصنوعة من الكسافا المحمص

[5] إييمانجا هي آلهة إفريقية وبرازيلية، الآلهة "الأم" التي تحمي كل النساء. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب