السبت 2022/01/29

آخر تحديث: 14:05 (بيروت)

الدّراما الغُراب

السبت 2022/01/29
الدّراما الغُراب
مسلسل "الغراب" التركي
increase حجم الخط decrease
"من ثمارِهم تعرفونَهم".. ومسلسل "الغُراب" آخر الثمار التي قطفها تلفزيون "الجديد" من شجرةِ الدّراما التركيّة.
شجرةٌ وارفة، تتفيّأ قنوات التلفزة اللبنانيّة ظلالَها منذ أعوامٍ طويلة، وتتسابق على تسلّق جذعها لإمتاع المشاهد اللبنانيّ بآخر ما تفتّقت عنه قرائحُ الأتراك من كتّابٍ ومخرجينَ وممثّلين.

لا يهمّ قنواتُنا ما إذا كانت تلك الثمار قد أينعت أم لا. المهمّ أن تنهالَ علينا، صبحَ مساء، بهذه البضاعة التلفزيونيّة، لمجرّد أنّها رائجةٌ ورابحة تجارياً، وقبل كلّ شيء لأنّ "الجمهور عايز كِده"... رحمَ الله موسيقار الأجيال محمّد عبد الوهاب. كان يأنفُ بشدّة من هذه المقولة، ويرفض أن تتحوّل شمّاعةً يُعلّق عليها أهل الفنّ، على اختلاف ضروبه، تقصيرَهم في تقديم مادّة راقية إلى المتلقّي، تصقلُ ذائِقته وتهذّبها. على أنّ هذا الشعار، على فداحتِه، لم يعد حتّى على مقاسِ الجمهور اللبنانيّ المغلوب على أمرِه. فهو ببساطةٍ شديدة بات لا يعرفُ ماذا يريد وسط الأزمات المتناسِلة التي تنكّل به. إذ كيف يُطلب من شعبٍ يلهثُ وراء رغيفه ودوائه ووقود سيارته، أن يتمرّد على طغيانِ الشاشات، أو أقلّه أن يجرّب المفاضلة بين مادةٍ سيّئة وأخرى أقلّ سوءاً؟

هكذا، طابت الغزوةُ التركيّة للجميع. أوّلاً، للقنوات اللّبنانيّة التي يروقُها الاستسهال، ولا يجتذبُها سوى التفوّق في سوق ما يسمّى "الرايتنغ". ثانياً، للمشاهدين البؤساء الذين ما عادوا قادرين على الاختيار، وباتوا يكتفونَ بـ"كَفاف يومهم" من "أطباقٍ" تلفزيونيّة رثّة. وثالثاً، وتلك المفارقةُ الكبرى، لشركات إنتاج محليّة، بات المسلسلُ التركيّ في عُرف القيّمين عليها مثالاً يستأهل الاستنساخ، فصارت تنجبُ أعمالاً هجينة، ممثلوها وأفراد طواقِمها لبنانيّون أو من جنسيّات عربيّة أخرى، لكنّها تركيّة الهوى من قمّة رأسها حتّى أخمص قدَميها.

والهوى التركيّ معروفةٌ أركانه: ذكورٌ ذوو كاريزما وهّاجة، يستطيعون إيقاع أيّ امرأة في حبائلهم. إناث بمقاييس جماليّة تناطحُ السماء، حتى يخالُ المرء أنّ وزارة السياحة التركيّة أصدرت قراراً بترحيلِ المواطنات الذّميمات، ولم تُبقِ سوى الحسناوات. قصورٌ مترامية وفيلّات فارهة وحياة باذخة. في اختصار، وصفةٌ شبه مكتملة لا تنقُصها سوى "رشّة" عشقٍ مستحيل وخيانة مبرّرة ودسيسة خبيثة وانتقام لا ينام.

لا ريب أنّ الدراما الإردوغانية تؤدّي وظيفتها الترويجيّة على أكمل وجه، رغم سقوطِها غالباً في شرَك التكرار، وتعويلِها على عامل الجذب المشهديّ والبهرجةِ. ولعلَها فعلت فعلَها خصوصاً لدى مدمني التلفزيون من اللّبنانيين. فخلال الأعوام الأخيرة، وقبل أن يُسلّط سيفُ الدولار الجامح على ليرتِهم المتهالكة، كانت الأقطار التركيّة مقصداً مفضّلاً لهؤلاء، من اسطنبول البوسفور وكاتدرائيّة آيا صوفيا والمسجد الأزرق شمالاً، إلى الساحل الجنوبيّ ومنتجعاتِه المستلقية على المتوسّط. ومن سخريّات الدهر، أنّ سقوطَهم في وهدةِ العجز عن ارتياد أماكنِهم المفضّلة تلك، تزامن مع سقوطٍ مماثل للعملة الوطنيّة التركيّة، فباتَ الضيفُ والمضيف في شبه وحدة حالٍ من حيثُ لا يدريان.

مطالعَ التسعينات، دشّنت "المؤسّسة اللبنانيّة للإرسال" موجةَ المسلسلات الأميركيّة اللّاتينيّة المُدبلجة، وكانت الباكورة "أنتَ أو لا أحد" من المكسيك. عملٌ متواضع بكلّ المقاييس، لكنّه أحْدَث جلبةً جماهيريّة غير متوقّعة. ربّما لأنّه كان الأوّل من نوعِه في الشاشات اللبنانيّة و"كلّ فرَنْجي برِنْجي". وربّما لأنّ بطلَته الجميلة خطفَت قلوب الرجال. وربّما لأنّ بطلَه المفتول العضلات ذوّب أفئدة النساء. لكنّ المؤكّد أنّ هذا العمل الأقلّ من عاديّ أسدى خدمةً جليلة للجمهور اللبنانيّ من غيرِ قصد، فقد صالحَه مع العربيّة الفُصحى التي اختيرت لينطُق بها الممثّلون، على كلّ عِلّاتها وثُغَرها.

كانت قد غابت طويلاً عن المسامع بعد عصرٍ ذهبيّ عاشتهُ، يعود الفضلُ فيه إلى صُنّاع دراما الستيناتِ والسبعينات، حين هيمنَت على غالبيّة الإنتاجات، وخصوصا التاريخيّة. وإذ بها تعود مظفّرة، بعدما سرقت العاميّةُ اللّبنانيّة وَهْجها، ولو تمّ ذلك على صَهْوة "جواد" مكسيكيّ.

أما "الطوفان" المتأتّي من أرض السلاطينِ الجدُد، فاختارَ منذ نعومةِ أظفاره أن ينطقَ سفراؤه بالعاميّة السوريّة. ونجحَ، بفضل ذلك، في إرساء تقاربٍ وتآلف بين اللبنانيّن والسوريّين، عجزَ عنهما التاريخُ المشترك بحُلْوِه ومُرِّه، وافتتاحُ السفارات وتبادلُ البعثات، وصولاً إلى المحاولات  المتكرّرة لسلوك طريق دمشق مجدّداً رغم أنف الحصار الغربيّ. ولعلّه القَبَس الوحيد في ليلِ الدراما التركيّة المُدْلهِمّ. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها