الأربعاء 2023/10/04

آخر تحديث: 13:16 (بيروت)

رواية بثلاثة فصول

الأربعاء 2023/10/04
رواية بثلاثة فصول
اللوحة للبنانية الراحلة لور غريب
increase حجم الخط decrease
يُروى أنّ سيادة العماد تراءى له في حلم ليلة صيف أنّ كرسيّ بعبدا من نصيبه دون سواه، فعاهد نفسه على الفوز به، مهما تكاثرت النوائب وانهالت المصائب ودارت الكواكب. اقتدى بالنبيّ أيّوب وصبره الدؤوب، حتّى كان له ما أراد. دخل القصر المهيب مظفّراً، رغم اتكائه على نيّفٍ و"ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم"، فألقى بمعلّقة زهير بن أبي سلمى بعيداً بعيداً، وأتبعها بنوستالجيا الأخطل الصغير ومناجاته لـ"الهوى والشباب والأمل المنشود".

افترق فخامتُه عن القصر وقد ناهز الثامنة والثمانين وأدّى واجبه على أتمّ وجه. اقتعد الجلد الوثير في المركبة السوداء على وقع الطبل والزمر، ولاذ برابيته الخضراء وحديقته الغنّاء، استعداداً لجولة ملاكمة جديدة مع صيّادي المغانم وناهبي الدراهم. 
 
يُروى أنّ عجوز البيت الأبيض كان مستلقياً على أريكته المفضّلة في مكتبه البيضوي، يتابع بمزيجٍ من إعجابٍ وحسد إنجازاً آخر أضافه العماد إلى سجلّه الحافل: لقد جعل من لحظة هجران القصر المنيف يوم لقاء متجدّد مع أنصاره، ونجح أيّما نجاح في ضخّ دماء جديدة في عروق زعامته. جسدُه ينوء بثقل الزمن، لكنّ قلبه ينبض فتوّة.

استدعى الفارع الأشيب أعضاء مجلس أمنه القوميّ على عجل، وأبلغهم النبأ الفاجعة: لقد قرّر الترشح لولاية ثانية مهما بهُظت الأثمان. نَزيلُ قصر بعبدا الداخل على التسعين، تربّع ستة أعوام على كرسيّه ولم يرفّ له جفن. فكيف يرضى هو، سيّد القوّة العظمى، القابضُ على مصائر الحكّام والشعوب والذي بالكاد بلغ الثمانين، بأربعة أعوام فقط؟ استعان الأعضاء على حيرتهم بالزوجة المثقّفة، خارقين ضروب البروتوكول، لكنّ الرئيس ظلّ على عناده. لم يجدوا بدّاً من مناداة طبيبه الشخصيّ. 

- سيّدي، أرجوك عدم المجازفة. بين يديّ آخر التقارير عن حالتك الصحيّة العامّة. ليس فيه ما يَسُرّ. زلّاتك وهفواتك على الملأ أكثرَ من أن تَحصى. آن لك أن تستريح. 
- لا تبالغ يا كيفن. ثمّ، كيف أسمح لهذا الجنرال اللبنانيّ أن يتفوّق عليّ؟ قُضي الأمر، وسأعلن ترشّحي في أقرب فرصة. 

يُروى أنّ ملاك الموت تقصّد أن يقبض على روحَيْ اللبنانيّ والأميركيّ في وقت واحد، وتعمّد أن يصادف أحدهما الآخر في رحلته الأخيرة. سُرّ الأوّل برؤية الثاني، ولم يأبه الثاني لمشاهدة الأول. 

- كم أنا محظوظٌ حتّى في ارتحالي، قال اللبنانيّ، الحياة الدنيا لم تدع لي مجالاً للقائك، لكنّ الحياة الآخرة شفت غليلي. 
- ليتها لم تفعل، رد الأميركيّ متعالياً، لا حديث بيننا، لا هناك ولا هنا. 
- إنحدِر لبُرهةٍ من عليائِك وأنصِت إليّ. تتجاهلني وترمُقني من فوق، في حين أنّك تَدين لي بآيات الشكر والعرفان. لو لم تفُز بولاية رئاسيّة ثانية، لما صنعتَ لمواطنيك كلّ تلك الفضائل التي ما زالوا يتغنّون بها، ولما نقشت اسمك في صفحات التاريخ الأميركيّ بحروفٍ مضيئة. مرّغتَ أنوف الجمهوريّين في وحل الخيبة والهوان، وجعلتَ من ذلك الملياردير الأشقر أضحوكة الأضاحيك. مضيتَ قدماً في إنهاض اقتصاد بلادك، وأنقذتَها من جحافل المهاجرين المهجوسين بالحلم الأميركيّ. أرسيتَ أساساً صلباً لمشروع الممرّ الحيويّ بين الهند وأوروبّا، وتركتَ لخلفِك أن يُكمل ما بدأتَه. نسجتَ اتفاقاً نوويّاً جديداً مع الإيرانيّين، ولمّا قامت قيامة الصهاينة عليك، أطبقتَ على أفواههم بقطعة حلوى، ينامون ويصحون على اشتهاء مذاقها: تطبيعٌ على سنّ ورُمح مع المملكة السعودية.
- ما شاء الله، ذاكرةٌ متحفّزة. ولكن، ما شأنك أنت بكلّ ذلك؟ 
- راداراتُ حلفائي لم تخيّب ظنّي يوماً. عيونهم في عُقر دارك أخطرتني بتفاصيل ذلك اليوم المشهود. اسأل أريكتك، تخبرك أنّك استلهمت منّي غدك السياسيّ المشرق، بعد عراكٍ كلاميّ مع مستشاريك وزوجتك وطبيبك.

تفرّس الأميركيّ في رفيق دربه وقد حلّ عليه صمت القبور، فيما أرسل اللبنانيّ ضحكةً مجلجلة، مزهوّاً بانتصارٍ آخر  للممانعة على "الشيطان الأكبر". 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها