الإثنين 2024/02/26

آخر تحديث: 12:07 (بيروت)

أنطوان ملتقى...أعاد "مسرح مارون النقّاش" وأصحابه حولوه مشغلاً للخياطة

الإثنين 2024/02/26
أنطوان ملتقى...أعاد "مسرح مارون النقّاش" وأصحابه حولوه مشغلاً للخياطة
لعلّه حملَ هذه الخسارة الجمّة إلى هزيعه الأخير
increase حجم الخط decrease
رحل أنطوان ملتقى ولم يُستردّ "مسرح مارون النقّاش" من مغتصبيه.
لعلّه حملَ هذه الخسارة الجمّة إلى هزيعه الأخير، وأسرّ بِلوعتِه تلك إلى رفيقة دربه، لطيفة ملتقى. ذلك المسرح متعدّد الوظائف والأبعاد، كان حلماً يدغدغ طموح أنطوان ولطيفة منذ حملا همّ الخشبة-المختبر. كان ذلك في ذروة ألَق المسرح اللبنانيّ، قبل أن تصفعه حروب البلد الصغير.

لكنّ المفارقة أنّهما عادا واستولداه من رحم البشاعة، وجعلاه واحةً مضيئة في صحراء قاتمة إبّان ثمانينات القرن المنصرم. "حرب بالطابق التالت" و"البزّاقة". عملان دشّنت بهما لطيفة ملتقى، الولادة الثانية للمسرح الحلُم مطلع التسعينات، مع حلول السلام المزعوم. وقف أنطوان ملتقى ذات مساء شتائيّ، يحيّي ضيوفه وضيوف لطيفة ممّن توغّلوا في أزقّة منطقة مار مخايل لحضور العرض الأوّل. رفاق الأمس هنا، وأيضاً طلّابه في الجامعة اللبنانيّة، ممّن أصابهم بلَوْثة الشغف والجهد والمثابرة. 


من حسن حظّي أنّني كنت هناك، صحافياً يافعاً، يتعلّم أبجديّة المهنة في كنَف جريدة "السفير" المحتجبة الآن. عدتُ من تلك الأمسية بمجموعة صور تلقّفها الأستاذ عبيدو باشا بسرور. وحين همستُ له بأنّني جرّبتُ أن أخطّ شيئاً عمّا شاهدت، ليتَه يجد سبيلاً للنشر، وعدَني خيراً، وسرعان ما وفى بوعده "لأنّ المادة تستحقّ".

لم يمضِ زمنٌ طويل حتّى ضجّت بيروت بما لم يكُن في الحسبان: آل ملتقى على وشك الخسارة الكبرى. مالكو "مسرح مارون النقاش" قرّروا استرداده مهما كلّف الأمر، والغاية …  تحويله مشغلاً للخياطة.

"نعم، مشغلٌ للخياطة، هل تتصوّر؟".
قالها أنطوان ملتقى بنبرة الأب المفجوع على وليده، وهو يستقبلني في منزله المتواضع في عين الرمّانة. كنتُ قد انضممتُ إلى أسرة "النهار"، وقرّرت أن أتقصّى حقيقة الأمر طمعاً في إجراء تحقيق. الحقّ أنّني لم أصدّق لسببين: الأوّل، لأنّ خيطَ الثياب في الوطن السعيد بات أهمّ بأشواط من خيط العقول والأذواق. والثاني، لأنّني كنتُ أتوقّع لقاء "لورنس وورغريف"، لا أنطوان ملتقى. كنتُ ما زلتُ الفتى طريّ العود، المفتون رعباً ودهشةً بشخصيّة القاضي الجلّاد في "عشرة عبيد زغار". وإذ بي أمام "ملتقى" آخر، خِلْتهُ زائفاً، لكنّه الأصيل الأصيل: متحالفٌ مع الصدق مهما تفشّى الرياء، وثائرٌ على الاعوجاج إلى آخر رمق. اختلط عليّ الأمر، وحقق الممثّل الفذّ مبتغاه.

تلك كانت معركتُه اليومية مع أجيال من مريدي مسرحه، انضم كثرٌ منهم إلى "حلقة المسرح اللبنانيّ". هاجسُه أن يستخرج منه، كمُخرج، الحدّ الأقصى من خزّان مواهبهم، وأن يكون لهم، ممثلاً، القدوةَ الواجب الاحتذاء بها.

وبمقدار ما تقمّص الغموض والرياء والقسوة في غياهب القصر المعزول، واستبدّ بنزلائه إحقاقاً لعدالة ضلّت طريقها في عُرْفه، تلبّس الحنكة والدهاء والظُرف، وعكَف على تفكيك لغز مقتل السيدة لايدنر بيَد زوجها البروفسور المتعالي. إنّه المحقّق "إيركول بوارو" في مسلسل "جريمة في القلعة"، المقتبس على غرار "العبيد العشرة" من رواية لآغاتا كريستي. عرَض "تلفزيون لبنان" هذا العمل في النصف الأوّل من الثمانينات، وقد لا يستذكرُه كثُر، ربّما بسبب ظروف الحرب آنذاك، وربّما لعدم نيلِه نصيبه من إعادة العرض أسوةً بسلفه. وليتَ الشاشة الرسميّة تنفضُ عنه الغبار، إكراماً لأحد عمالقة الخشبة اللبنانيّة.

لم يهنأ أنطوان ملتقى باسترداد "مسرح مارون النقّاش"، لكنّه انتزع برحيلِه قطعةً من ذاكرتنا، لن نقوى على استردادها. وداعاً سيادة القاضي.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب