الجمعة 2018/12/07

آخر تحديث: 17:23 (بيروت)

وإني رأيت الله

الجمعة 2018/12/07
وإني رأيت الله
increase حجم الخط decrease
من بعيد أطلت حزينة عاتبة على ناظريها، فوقها نور فريد لم أرَ مثله قط. إن أطلتَ النظر، احترقت مقلتاك ألماً، وإن أغفلتها ندمت..
عاتبتني وأدارت وجهها واختبأت تحت غيمة كبيرة خُلقت لها، لن يحميها من غدرنا سواها. 
من جبل موسى المقدس، وقفت كموسى مسلمةً أني لن أصل إلى أرض الميعاد قريبًا، بكيت كموسى ولكن بلا عصا ولا نبوة ولا صوت الرب يصدح في أذني.
 
إنها القدس، إنها فلسطين، على مرمى دمعة وغصة.. رأيتها ولم ترني..
زيارةٌ دينية لجبل نيبو، جبل ذو أهمية دينية عند الديانات السماوية، ومكان حجٍ للمسيحيين. توجهنا ظهرًا، مجموعة من دعاة الحوار والسلام العرب والأجانب. لم يكن سواي يسمع أفكاري، للمرة الأولى أزور مكانًا بهذه القدسية وقراءاتي عنه أكدت لي أني قد أراها ولو طيفًا أو ضبابًا. رتبت حقيبتي وضممتها وشوقي إلى صدري كطفلٍ يزور مدينة الملاهي للمرة الأولى.. ومتعة الملاهي يصاحبها الخوف عادةً ومتعتي بها صاحبها الكثير من الجبن الموروث وكسرة العين الأبدية.

وصلنا بصحبة دليلٍ سياحي وموكبٍ رفيع ولم أرَ سواي، حدثتهم وسمعتهم لكن من دون جدوى، سمعت أساطير كثيرة عن موسى ونوح وعيسى وأنبية ورسل.. ابتسمتُ لهم وكظمت غيظي سرًا. هنا، سار موسى بعصاه، هناك عبر نوح بسفينته، هنا بكى المسيح، بل الصدق أقول، هناك بعيدًا أبكيتم المسيح وأمه والروح التي نُفخت فيه. هناك هدمتهم صخرة المعراج وعبدّتم طريق المعراج ذلًا وحقارة. سر بنا إلى تلك الجهة، إلى ذلك الجرف الذي ينتهي بها ويبدأ بذُلنا الأبدي.
 
محطاتٌ عديدة توقفنا عندها ورأسي يميل مكرهًا إلى تلك الربوة، تحدث كثيرًا ذلك المرشد كما طُلب منه، أدى واجبه بصدق على عكس عاداتنا العربية. اخذت للمجموعة عشرات الصور وجهت عدستي على وجوههم ورحت أطوف بوجهي إلى التلة التي يعلوها مجسم العصا والثعبان رمزاً لقصة موسى ورسالته. أما استطاع موسى أن يضرب عصاه في أرضها ويصلها جسرًا بين أرواحنا وبينها؟ أما استطاع أن يستبق خيانتنا ويطلب من ربه أن يمحو ذكرنا كلنا ويبقيها وحدها؟

سبقتني خطواتي اليها.. تلةُ واسعة المدى، مجسم هائل، وعطرها الدامي. وقفت، وتعطلت كل حواسي. ها هي هناك، أرض الميعاد، أرض القيامة، أرض الإسراء. "إسرائيل"، هكذا عرفها مرشدٌ آخر لمجموعة من السياح الآخرين، منفرج الأسارير قالها، "تلك الأرض المنبسطة هناك، إسرائيل، الأرض المقدسة". غطت عينيّ غشاوة سوداء وسرت في جسدي رعشة تشبه الموت، التفتّ اليه واقتربت منه مسافة لكمة أو أقل، وقبل أن أصل اليه ناداني صوت أجراس الكنيسة تقرع للصلاة. دخلوا جميعًا إلا انا، جلست قرب عصا النبي وتوأكتها ومشيت خيالًا إليها. "كم أحتاج من الوقت حتى أصل اليها سيرًا؟" حسبت المسافة عشرات المرات. الأرض منبسطة، إذا عبرت مباشرةً أصل إلى أريحا وبعدها رام الله، أما إذا سرت مع شاطى البحر الميت فأصل إليها، وربما لو عبرت البحر الميت تكون المسافة أقرب. حسبتها بالأرقام والجغرافيا والأحلام، ولم أجد دربًا إليها، ولم أجد لنفسي طريقةً لمواجهتها. كتبت حوارنا في ذهني، ستعاتبني، ستشتمني وربما ستصفعني وتدير ظهرها وترحل عني، كما فعلت وإياكم معها. ولها كل الحق، فما زلنا نردد اسمها في خطاباتنا وثوراتنا ولا نفعل من أجلها سوى الكلام. 

ساعةٌ انقضت وأنا أمامها، أخاطبها في سري وأبكي علانيةً، كدت أشم ريح زيتونها وطهرها لولا أن أتاني صوت زميلي أن حانت ساعة الرحيل. أخذت لها ألف صورة ونسختها في قلبي بكل تفاصيلها، ودعتها ولم تجبني، طلبت السماح والإذن أن أعود إليها يومًا ما، يوم تكون لي وحدي، لكنها لم تصدقني وسخرت مني، لبست غيمتها ورحلت، ورحلتُ بدوري.
 
خطواتي ثقيلة بثقل وجعها، رسمت ابتسامة الزيف وسرت مع المجموعة نسترجع الأحاديث التي سمعناها ونحضر للأحاديث اللاحقة. غادرتها ولم تغادرني، رتبتها في عقلي ورسمت خريطتها وحدودها في ذهني ورحلت على أمل أن أحضن جدرانها وترابها قريبًا.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها