الإثنين 2019/06/24

آخر تحديث: 13:33 (بيروت)

25 عامًا من العزلة

الإثنين 2019/06/24
25 عامًا من العزلة
لوحة لصبيح كلش
increase حجم الخط decrease
من شرفة منزلك الذي لم تزره يومًا ولم تكن لتعرف بوجوده، أكتب لك اليوم رسالةً سيقرأها الجميع إلّاك. بيت جميل يطل على مناظر كنت ستحب أن تجلس صباحًا تتأملها. فنجان قهوتك "الشفة"، علبة "الشستر فيلد" ومسجلك العتيق يصدح بمسرحيات وموسيقى زياد التي عشت تجمعها وتخزنها لي من بعدك.. 

بيتك القديم تداعى مُكرهًا ليماشي الحياة من بعدك. لم يبقَ منه سوى أشيائك التي خبأتها أمي عنا، أو عنها كي تتناسى جرح غيابك. احدى غرف منزلك الجديد امتلأت بك، كتبك واشرطتك، كتاباتك ودفاتر حساباتك، صورٌ كثيرة اخذت عمرك وانت تلتقطها، صور لأشخاص لا أعرفهم، اجملها تلك التي انت فيها، قمصانك الملونة، شاربك الرمادي، ضحكتك وأنفك الصغير.. كلها طبعتها في ذاكرتي لكنها لم تكتمل بعد ولن تفعل، كيف لي ان احولها مشاهد بأصوات ضحكاتك وخطاك ورائحتك؟

اليوم يصادف اليوبيل الفضي لرحيلك، 25 عامًا خطفت مني كل مراحل حياتي، طفولة بلا "بابا"، مراهقة فوضوية من دونك، واليوم شابة على مشارف الثلاثين أصغر اخوتي واكثرهم حرمانًا منك، شابة بنظارات طبية وشهادة عالية والكثير من التجارب التي لم تساعدني بخوضها، نجاحات كثيرة أهديتها لروحك وفشل خبأته عنك كي لا تؤنبني.. 25 عامًا كاملة كافيةً لأحفظ معنى الفقدان غيبًا، يوبيلك الفضي قاتل كشكل محبسك الفضي المنقوش باسم أمي، ذلك القبيح الذي قطعوه من يدك كي يخرجوه من اصبعك، أولم تكن نحيل القامة واليدين؟ أما استطاعوا حينها أن يخرجوه بطريقة عادية؟ لم يتركوا لي يا أبي قطعة ملابس واحدة تخصك، لا أدري أي شرعٍ  يحرم انسانًا من احتضان قماش غطى يومًا جسد من يحب. لو أبقوا على ملابسك كنت ارتديت قميصك في كل مرة تعذر علي فيها النوم، كنت مسحت وجهي ودموعي وضحكاتي وآلامي، كان بصري رُدّ إليّ، كنت اقتربت منك اكثر، عرفت مقاساتك، كان سيحدث الكثير لو تركوا قميصك..

25 عامًا وأثر غيابك يذكرني بتقدمي بالسن من دونك، لم يكن لي فيها عوضًا عنك سوى قصص الناس عنك، طرائف كثيرة، شهامة كبيرة ومحبة لكل من عرفتَ، ومن كل مَن عرفك. خزانة كتبك بقيت مقفولة طويلًا، كنت ازورها ليلًا او خلسةً لأنها كانت مليئة بالكتب غير المخصصة للأطفال. روايات جريئة قرأتَها كلها، وتصفحتُ أنا بعضها سرًا خوفًا من رد فعل أمي "ماما هول للكبار، عيب" لم أكن أعرف وقتها كيف لكتابٍ أن يكون عيبًا، وبقي الموضوع هاجسًا عندي حتى اكتشفت العيب الذي خبأته أمي عني، قصص حبٍ وأشواق جياشة، غريبٌ هذا العيب، لكنك جميل بكل ما تركت لي من أثر ومقتنيات. عشرات المسابِح والقداحات جمعتها من أصدقائك وزياراتك، زجاجة عطرٍ فارغة وجواز سفر لم يُختم قط، ساعات بكل الاحجام، موجود أنت في كل ما تركت.

أُشبهك كثيرًا، تقول أمي ومعارفك، شكلًا وقلبًا وطباعًا، وفي كل مرة أسمع أحدًا يشبّهني بك يكبر في داخلي حبي لنفسي وفخري بكوني ابنتك، وآخر ما تركته على هذه الأرض. انا يا أبي لا أتذكرك أبدًا، لا طيفًا، ولا منامًا، لا أذكر أي تفصيلٍ منك، وهذا أقسى من رحيلك. غالبًا ما أقول في المجالس أن هذا أفضل لي، لكني أكذب يا أبي، أكذب في كل مرة، لو أني أتذكرك لو وهمًا كنت ستصير بذكرياتك أسلوب حياتي ومستقبل أولادي. 

أكرهك مرتين في العام أو يتضاعف حبي لك، لست أكيدة. يوم ميلادي الذي ولحكمةٍ ظالمة يصادف يوم ميلادك ويوم رحيلك. في الواقع، يطول الاحساس أحيانًا ليشمل الشهرين كاملين. 
جميلٌ أنت يا أحن الآباء، هكذا يخبرني أخي الكبير، أكثرنا معرفة بك، كنت عطوفًا ذا قلب كبير ونظارات طبية سميكة أخفت جمال عينيك طيلة عمرك القصير..

قصيراً كان أم طويلاً.. مؤلم غيابك وسيبقى.
ختامًا، ستظل فخري وحبي الأصدق والأروع.. إلى أن نلتقي..
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها