الجمعة 2018/10/12

آخر تحديث: 13:39 (بيروت)

من الحبّ ما قرأ

الجمعة 2018/10/12
من الحبّ ما قرأ
increase حجم الخط decrease
كان يقف معهم، ينتظرون القطار المتجه الى وسط المدينة. الساعة لم تتجاوز العاشرة صباحاً، مدة الانتظار ثلاث دقائق. إنه يومٌ خريفي عادي في ليون-فرنسا. 

كان بينهم.. ولم أرَ سواه. أكاد أجزم أن تفاصيله ما زالت عالقةً في ذهني حتى اللحظة. لم ينقصني سوى اسم العطر الذي يستخدمه لأحفظه في ذاكرتي وأنسخه لاحقاً على جدران غرفتي. معطف خريفي أسود، وشاح خمري يغطي كتفيه وعنقه بهدوء، لحية محتالة. تراها، إذا تلفّت، بيضاء. وإذا رفع رأسه أو أخفضه، سوداء. شعره داكن، زينته خصلة بيضاء زادته وقاراً وجمالاً.

وقف معهم، بين الناس العاديين، لكنه ليس عادياً. وأنا انتظرتُ في المحطة المقابلة، والوصول اليه يتطلب أن أقفز تحت القطار أو أمامه، لكني جبُنت.

وكان الحب من الصفحة الأولى. وقفتُ أمامه في القطار، تسع دقائق، حفظته بدقة، لكنه لم يرَني ولم ينظر إلي حتى. طيلة الدقائق التسع، لم يرفع رأسه عن كتابه، إلا مرتين، ليعدّل نظارته. كان يقلب صفحات الكتاب كمَن يلامس يدي حبيبته. يقرأ بنهم، يتأمل الصفحات كأنها فتاة جميلة تتحرك أمامه. أجمل النساء عبرن أمامه وخلفه، فساتين قصيرة، ضحكات صاخبة، أصوات الأحذية ذات الكعب العالي، ألوان كثيرة من أحمر الشفاه وطلاء الأظافر، كل اشكال الأجساد.. لم يلتفت، لم يرفع رأسه حتى، خاشعٌ في كتابه، مغرمٌ بما يقرأ. عشر صفحات قلَّب أمامي، وعشر مرات فقط رمشتُ أمامه. كان كل ما يعوزني حينها كاميرا، أو قلم وورقة، لأرسمه، أو أرسم ذهولي به. أربعيني جميل، هادىء الملامح والتفاصيل، ابتسم قليلاً وركز قليلاً، وسحرني كثيراً. نسيت حينها موعدي مع صديقتي في الجامعة، تجمدت حواسي كلها، إلا البصر. حينها، لم احتَج نظارتي الطبية، ولا الدنو منه، احتجت فقط أن افصل حواسي كلها، وأركزها في عينيّ، علّني استطيع أن أريه ما أرى به.

الكل يقرأ هنا، لكنهم ليسوا هو. كل يحمل كتاباً لأوقات الفراغ، أما هو فكتابه كل وقته. كان قد بدأ قراءته للتو، ذلك الكتاب الصغير. كتاب الجيب كان جديداً، لونه فاتح ومتوسط الحجم. نسيه قطار الأنفاق مرّتين، قبل أن يستدرك نفسه قبل إقلاع الثالث بثوانٍ قليلة. لم أبارح مكاني حتى رأيته يأخذ مقعده قرب النافذة ويعاود عناق صفحات كتابه السحري ويختفي عن ناظريّ.

أيقظني من خيالي، إتصالٌ من صديقتي تخبرني بأن الإمتحان بعد نصف ساعة. وبين الإمتحان وهيامي الجديد، قررت أن أقسم الوقت، فكل ما أحتاجه للوصول عشر دقائق، وكل ما ينقصني كان هو. أردت بشدة لو استطعت أن أعرف اسم الكتاب أو حتى شكل غلافه، كي أبحث في مكتبات ليون عنه، علّني أجد نفسي بين صفحاته أو أنسى كل تفاصيل الحياة وأسرح فيه، كما يفعل هو.

لم يكن حباً. كان إحساساً غريباً، جديداً عليّ. لم أصادف يوماً رجلاً بهذا الوفاء، كل هذه الأمانة أعطاها لمجموعة أوراق، فكيف تكون علاقته بحبيبته؟ تمنيت لو كنت كتاباً، لا ليقرأني ولا لينظر إليّ بدفء فحسب، بل ليعطيني ذلك الوفاء الذي بدأ ينقرض في أيامنا.
وغادر، وبقي في ذهني طيلة اليوم. إبتسمتُ كثيراً، حتى مع ورقة الامتحان المستفزة..
أحبّيه قارئاً، فكّرتُ، فلا يقدّر قيمة النساء إلا من يعشق الكتب.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها