الجمعة 2024/03/08

آخر تحديث: 11:58 (بيروت)

رائد الإيماء فائق حميصي...بين أنطون ملتقى ومارسيل مارسو والرحابنة

الجمعة 2024/03/08
increase حجم الخط decrease
استقبل محترف سميح زعتر في زغرتا-السيدة الغربي، ضمن نشاطاته غير الدوريّة لهذا الموسم، الممثّل البروفسور فائق حميصي، في جلسة حول فنّ الإيماء وتاريخه وعلاقة حميصي نفسه به. وأمام جمهور متشوّق للقائه والتعرّف به، هو الذي عرفه ابنَ الجارة طرابلس، وفرح به كلّما شاهده في الأعمال الكبرى والمهمّة التي شارك فيها، وقف حميصي ما يزيد عن الساعتين راوياً وشارحاً وموضحاً بالحركة والتمثيل ممّا في جعبته الثرية المكتنزة بالتحصيل الأكاديمي وبالدراسات الخاصّة والخبرة المتحقّقة له من النتاجات المتعدّدة في عالم التمثيل كما من مجال التربية وتعليم مادّة المسرح على مختلف المستويات، إن في كبريات الجامعات وإن عبر مشاركته أو إشرافه مباشرة ووضعه البرامج التربوية الخاصة بتعليم المسرح ونشرة في أوساط الناشئة منذ صغرهم، في لبنان كما في دول الخليج، الشارقة والإمارات على الأخصّ.

بداية، وبناء على سؤال، أوضح حميصي مفهومه لتعليم المسرح للأطفال، مشدّداً على التمييز بين التعليم والتربية. ففي حين فهم المعنيّون بهذا الشأن، عند وضع المناهج، أنّ المطلوب تمكين الطالب من القراءة، رأى هو أنّ المقصود اعتماد المسرح في التربيّة وليس في التعليم، على أن يكون الهدف تدريب الطالب على  فهم النصّ وتفكيكه وتفسيره، بغية تحقيقه التواصل عبر المشاركة بالانصات والمشاهدة، والتعبير بالصوت والحركة والأفكار الذاتية، فتصبح قراءة النصّ بغية الفهم وبناء الشخصيّة وليس بالضرورة من أجل تقديم عرض مسرحيّ.


ثمّ تحدّث حميصي عن مودّته الخاصة لزغرتا، موضحاً أسبابها العائدة إلى زمن الدراسة، يوم قرّر، وبعكس رغبة الأهل، العمل لتحقيق رغبته في دراسة المسرح، وانتسب إلى دار المعلّمين في طرابلس، حيث ظهرت موهبته وقدراته، ولاقى تشجيعاً من معلّمَين هناك، الأخوين الدويهي، اللذين لم يتوانيا عن اصطحابه إلى بيروت لحضور المسرح وعرّفوه لاحقاً بأنطوان ملتقى، الذي وجّهه للسفر والدراسة في فرنسا، وهنا أيضاً لاقى دعماً ومساعدة منهما بواسطة أخيهما الأب هكتور الدويهي (المطران لاحقاً). هذه العلاقة والاهتمام ولَّدت عنده مودّة خاصة للبلدة الجارة وأهلها، خصوصاً أيضاً بعد تقديمه عرضين إيمائيّين في ثمانينات القرن الماضي، الأول للأطفال في المسرح البلدي في زغرتا، والثانية في دير ما سركيس في إهدن، وكان عرضاً إيمائيّاً باليدين، وهي الطريقة الخاصّة به التي عمل عليها وسيحدثنا عنها لاحقاً.

الإيماء عبر التاريخ
ثمّ قدّم حميصي عرضاً سريعاً لتاريخ الإيماء، مقدّراً أنه فنّ عريق قد يعود في أصوله، أو نجد منه في الحضارات العريقة الهندية أو الصينيّة او اليابانيّة أو غيرها، لكن هذا الفنّ بمفهومه النهائيّ يُنسَب عموماً إلى الحضارة اليونانيّة، وقد انتشر منها في أوروبا وسائر العالم وصولاً إلى عصرنا الحديث. وهنا استفاض الحميصي قليلاً في شرح طبيعة هذا العمل الفنّي وموقف المجتمعات قديماً وفي العصور الوسطى منه. فهو على ما يبدو كان في البداية عبارة عن عروض تمثيلية شعبيّة تعرض في الشوارع والساحات، وفيها نوع من تهكّم وسخريّة من المسرح الجدّي، مسرح النبلاء. وقد لاقى هذا الفنّ احتقاراً وقوبل العاملون به بالتنكيل والاضطهاد. ولفت إلى أنّ العرب عرفوا ربّما استعراضات من هذا النوع تقوم على الإيماء، مع أشعب، وأنّ الخليفة المعتمِد قد حرّم العمل بهذا الفن وأمر بإحراق أصحابه وصورهم (وربما يكون المقصود بالصور الأقنعة التي كانوا يضعونها على وجوههم).


ثمّ بين فائق حميصي كيف اكتسب هذا الفن شيئاً فشيئاً شرعيته وفرض نفسه في العصور المتأخرة، وباتت له مدارسه وأعلامه، بالرغم من أنّ النظرة الدونيّة إليه لازمت بعض أهل الفكر والأدب. فعندما مُنح المسرحي والممثّل الإيمائي داريو فو جائزة نوبل، كان هناك من عبّر عن استيائه معتبراً أن ذلك يحطّ من قيمة الجائزة كونها مُنِحت إلى "مهرِّج".

الدراسة في فرنسا والتخصّص الجامعيّ
ثمّ تحدَّث حميصي عن دراسته في فرنسا، وعلاقته بمارسيل مارسو صاحب المدرسة في فنّ الإيماء، الذي لم يستطع إلحاقه بصفّه بعد اكتمال عدد طلابه، لكنه نصحه بالانتقال إلى مونتروي (Montreuil) للدراسة على يد جان لوي بارو وهو من طلابه وملمٌّ جيّداً بأصول مدرسته. وهناك أظهر حميصي موهبته، وعمّق دراسته وتجربته، وقدّم ما عنده من طرق جديدة خاصة به، مثيراً بذلك اهتمام أساتذته والزملاء، ومغنياً ثقافته وتجربته بمتابعة عروض كبار أصحاب هذا الفنّ.


وقد أرفق حميصي شروحه النظريّة بعروض تمثيليّة توضيحيّة عُرضت على الشاشة، وبنوع خاص مقطع من فيلم جان لوي بارو "أولاد الجنّة" (Les enfants du paradis)، وكذلك في شرحه أنواع الأقنعة عرض مشهداً رائعاً عن القناع اليرقة... وهو قناع مصنوع من عجينة بلاستيكيّة مميّزة يمكن تغيير شكلها على التوالي، وقد مات مخترعه من دون أن يترك أو يعلّم طريقة صنعه... وفي التغيّرات السريع التي تحدث فيه ما يوحي بمختلف سمات الوجوه والأشكال التعبيرية، أو مجرّد الشكليّة، التي يمكن أن تتّخذها...

في لبنان والعالم العربيّ
روى حميصي أنّه قبل سفره كان قد عرض مسرحيته الإيمائيّة الأولى في بيروت "فدعوس يكتشف بيروت"، من إخراج موريس معلوف، وهي الأولى من النوع في لبنان، ويومها قيل فيه: "لقد أصبح عندنا مارسيل مارسو". وقد استعرض بعض الأعمال التي شارك فيها مع زياد الرحباني ثمّ مع الأخوين رحباني وقد تولّدت علاقة وثيقة بينه وبين عاصي على الأخصّ الذي أراد أن يعرف أكثر عن فنّ الإيماء. وبالطبع لم يكن هناك مجال للكلام عن عشرات الأعمال التي شارك فيها، في المسرح بكل أنواعه والسينما والباليه، في التلفزيون والسينما، في لبنان وفي العالم العربيّ. لكنه توقّف عند الطريقة التي ابتكرها انطلاقاً من محاولته التعبير عن محيطه، وهي حركة اليدين أثناء الكلام، التي رأى أنّ لها تعبيراتها المميّزة، وهكذا جرّد منها طريقة خاصة به، وهي التعبير أو التمثيل بقبضة اليدين والكفّ وظاهر اليد والأصابع فقط، وبعد شرحه وإعطائه الأمثلة الحيّة، عرض على الشاشة مشهداً يعبّر فيه عن رفض الحرب عموماً. معترفاً أنّ أول العروض التي قدمها في بيروت من هذا النوع لم تنل إعجاب الجمهور، باستثناء صحافيّة واحدة. وفي شريط آخر عرض مشاركته بالأداء الإيمائي ماجدة الرومي في إحدى أغانيها.

الرائد
من دون أيّ شكّ يُعتَبر فائق حميصي رائد الفنّ الإيمائي في لبنان (وربما في العالم العربي) معه تعرفنا على الوجه الأبيض الضاحك (وجه شارلي شابلن). وقد أغنى حميصي هذا الفنّ في لبنان، بتجارب مختلفة، غير مكتَفٍ، كما قال، بالتمثيل الإيمائيّ، بل تعدى ذلك إلى المسرح الإيمائيّ، سواء في أعماله الخاصة أم في الأعمال التي شارك فيها. وربما نقول يوماً ما إنه صاحب مدرسة في هذا المجال، قائمة على مفهومه الخاص الذي أوجزه كمبدأ في معادلة هي التالية، التي أقنعت عاصي الرحباني وعمل معه عليها:
الشكل والحركة + الإيقاع = الحالة النفسيّة (Etat d’ame).

فائق الآسر
بالطبع أثار فائق حميصي اهتمام الحضور بما يمتلكه من معلومات وتجارب، وبما يختزنه من معارف أكاديميّة وعلميّة، ربّما استعرضه من طرائق إيمائية عامّة وخاصّة. لكن الحقيقة أنّ فائق وقف أمام الحضور، بسنواته الثماني والسبعين، زهاء ساعتين ونصف، لم يجلس إلا لتشغيل شريط العروض، معبّراً باللسان واليدين والوجه والجسم، وبعفوية صادِقة خالية من كلّ تصنّع، حتى أحسّ الجميع وكأنّهم أمام عرضٍ مسرحيّ وإيمائيّ حيّ، خصوصاً وأنّ فائق بعفويته هذه عبّر أحياناً بلهجة أهل البلد، طرابلس، المحبّبة، التي تغني المعنى، وتساعد في إيصاله من خلال النبرة واللكنة المميزتين، وعل الأخصّ مع اقترانها بالروح الخفيفة المرحة والنكتة االذكيّة الهادفة. وقد عرف كيف يضبط إيقاع العرض، وإن كانت محاضرة على مدى أكثر من ساعتي، والحضور يستزيده. حتّى لكأنّ فائق يؤكّد بشكلٍ ما أنّ الحياة في جوانب كثيرة منها هي تمثيل، كما أراد هو أن يجعل فنّه مستمَدّاً من الحياة ومعبّراً عنها.

بهذا الثراء وهذا الفكر والفنّ، برهن فائق حميصي أنّه بهذه المسيرة الطويلة، يختزن خبرة وتجارب أكثر من نصف قرن من عمر الفنّ الناهض في لبنان وشماله في زمن الازدهار، في ستينات وسبعينات وثمانينات القرن الماضي. وبالتأكيد أنّه وأمثاله من ذاك الرعيل، بما في جعبتهم الفنّية، هم الحرز الذي نتمسّك به لنحافظ على وجه وطننا الثقافيّ والحضاريّ في وجه من يعملون على محوه وطمسه، أو يحاولون تشويهه بالتفاهات والأعمال الهابطة التي يُرَوَّج لها اليوم. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها