الخميس 2024/02/15

آخر تحديث: 11:15 (بيروت)

"المَنْكوح" لنسرين النقوزي...بين الافتراضيّ والواقعيّ يتلاقى المَسْحوقون بالحظّ التعِس!

الخميس 2024/02/15
"المَنْكوح" لنسرين النقوزي...بين الافتراضيّ والواقعيّ يتلاقى المَسْحوقون بالحظّ التعِس!
increase حجم الخط decrease
أقامت نسرين النقوزي بنية روايتها الأولى المنكوح[1]، على عالمَيْن متقابلين عمودياً، الافتراضيّ والواقعيّ، ومتعارضين أفقيّاً، المشرق العربيّ والمغرب العربي، لتنقل من خلالها معانيات الفرد العربي، شرقاً وغرباً في تعاطيه مع محيطه وما يفرضه عليه من إكراهات وما يحرمه منه مِنْ أمانٍ وآمالٍ مُجهَضة.

شخصيّتان اثنتان تطغيان على الرواية، أو هي تكاد تنحصر فيهما، مجيد، الأمازيغي الجزائريّ المتعطّل، وحسّان العربيّ السوريّ المقاتل رغماً عنه في مكانٍ ما مع داعش. وتشاركهما في النصف الثاني من الرواية شخصية حيوانيّة هي كلب مجيد. 

عبر المسنجر أو الواتساب يتجاذب مجيد وحسّان أطراف الحديث كما معظم المُرْتَفِقين بالعالم الافتراضي. ومع أنّ الكاتبة اعتمدت بالتناوب تقريباً ضميرَيْ المخاطب والغائب، إلا أن الكلام كثيراً ما يبدو لنا أنّه يأتي من جانبٍ واحد، خصوصاً من طرف مجيد الذي غالباً ما يغرق في مطوّلات هذيانيّة مهلوِسة، مردّها إلى تدخينه "الزطلة"، وهي الحشيشية بلغة الأمازيغ.

يبدو مجيد طوال الرواية ساخراً من كلّ ما حوله في هذا العالم، من الأهل والدين والحياة، ومتخاصماً مع الله كما مع سائر البشر، وفي هذياناته تتفتّح قريحته عن آراء ومواقف يعبّر عنها على طريقته المُسْتخفّة العابثة والمضحكة لصديقه حسّان، وفيها نستشف نقمته على كلّ ما حوله، أبيه وأخيه وأهله، ما عدا أمّه، وعلى مجتمعه، وخصوصاً مجتمع العرب، وهو يتّخذ منهم موقفاً عدائيّاً كردّة فعل على موقفهم العنصريّ من جماعة الأمازيغ وحرمانهم إياهم من الكثير من حقوقهم.

في المقلب الآخر يبدو حسّان أسير موقف أو موقع لا يرغب فيه، مقاتلٌ في ناحية ما من سوريا، مكلّف حراسة مبنى أو مركز، ويمضي نهاره وليله ضجراً ومتبرّماً ومتمنّياً النجاة من هذا الوضع الذي هو فيه.

في هذه الحالة يبدو كلا البطلين متبطِّلاً ومفتّشاً عمّا يملأ به فراغ وقته ويغيّر مجرى حياته. حسّان الشاعر المُفتَرض ربما يتوق إلى العمل في مجاله، ومجيد الساخر يتخيّل نفسه مهندساً يوماً ما، ما سيسمح له بأن يقبر الفقر كما يُقال ويحقّق أمانيه وأماني أمّه. ووسط أحلام اليقظة تراه يخترع حياة متوهّمة، حياة حبّ وغرام وجنس يتمنّاها كل شابّ محروم حريّة العلاقات في مجتمع متخلّف ومحافظ. لكنّه لا يحظى من هذه الحياة إلا بوهم المتعة الجنسيّة (مع النساء) والتي ينفّس إلحاحها عليه بالتبنيط، (الاستمناء في اللغة الأمازيغيّة) المتكرّر على صور جميلات متخيّلة أو على الورق. وهي استيهامات يُشرك صديقه حسّان فيها موهماً إياه بكونه زير نساء، له حبيبة أو أكثر من امرأة، ينتظر قدومها أو زيارتها في كلّ لحظة. وهو ما يجعل حسّان، بينه وبين نفسه، يغبطه على ما يتمتّع به من حرّية وقدرة على مقاربة النساء، هو المحروم هذه النعمة بدوره، والذي يعوّض منها بالاستمناء أيضاً.

مواجهة بين عالمين

هذه العلاقة التفاعليّة عن بُعد، القائمة على شيء من التكاذب، تفضح إلى حدٍّ كبير هذا التناقض أو التعارض، أو حتى العداوة الضمنيّة بين عالمين يُفترض أنّهما ينتميان إلى أصول أو أعراق أو أجناس واحدة، لكنّهم عمليّاً متباعدان ومتنافران. نسمع مجيداً يعبّر عن نقمته على العرب الشرقّيين: "لسنا أبناء مامي وبابي مثلك. حيث تقيمون أعراساً وولائم عندما يخلق أحدكم وتسجّلون تاريخ الميلاد. نحن نريد أن نُخفي أعياد ميلادنا". ولا شكّ نلمس في ذلك شيئاً من الحسد أو النقمة أو الإحساس بالإجحاف...

شيء من كل ذلك يردّ عليه حسّان بينه وبين نفسه:

"هذا المجيد يخضّ داخلي بكلماته غير المفهومة وغير المنطقيّة يقولها وهو في دنيا ثانية

"عائلة ميسورة" يُردّد على مسمعي واصفاً حالتي.

يظنّني الولد المغنَّج، هو يحسدني ويحتقرني، يظنّني معلّماً ناجحاً وانا أحسده وأتمنى أن أعيش حياة موازية لحياتي هذه، أكون فيها أنا. كما يفعل هو".

كل منهما يتمنّى أن يكون الآخر معتقداً أنّه بذلك ينجو من العالم البائس الذي يعيش فيه. حالة انفصاميّة تعكس إلى حدٍّ كبير ما آلت إليه أحوال الشباب في كلّ مكان من العالم العربيّ، في صراعهم، لا بل عجزهم أمام الواقع الثقيل الذي يفرض نفسه عليهم في السياسة والدين والعادات والتقاليد والعلاقات الاجتماعيّة، والأهمّ في مجال الحرّيات. ونراه في عجزه هذا مستسلماً مستخفّاً مشمئزّاً غارقاً في حالة من اليأس الذي يجعل السبل تنقطع به فلا يرى خلاصاً حتى في الثورات الطموحة المعلنة، فنراه في العالم الخارجي شيئاً وفي عالمه الخاص شيئاً آخر: "هل أصبح الشباب العربيّ كلّه يعيش انفصاماً؟ له حياتان وشخصيّتان وقلبان؟ هل تزاوج كلّ عضو منه فأنجب مسخاً مشوّهاً هو الأنا التي نراها الآن!!!؟

أدخلت الكاتبة مع هاتين الشخصيّتين شخصيّات ثانويّة غير مرئيّة وغير مشاركة، ظلّت بعيدة عن المشهد الرئيسيّ، نسمع بها فقط من مجيد، لأنّهم مجموعة أصدقائه. كما أنّنا نرى غياباً شبه تام للمرأة كشخصيّة مستقلّة، فهي ليست موجودة في الرواية إلا عبر تخيّلات مجيد وحسّان. وتبقى شخصيّة الأم فقط في الأقسام الأخيرة، وأيضاً ليس بحضورٍ قويّ ودائم، إنما من خلال رواية الكلب عنها.

لكن الشخصيّة الثالثة التي حمّلتها الكاتبة دوراً مهمّاً هي شخصيّة الكلب، كلب عائلة مجيد، كلب الفداء كما يسمّيه، والذي يبدو في نهاية المطاف أنّه تخلّى عن دوره وبات في حالة عجز بعد أن هاجمته مجموعة من الذئاب كما يروي مجيد، ليصبح الكلب هنا رمز الانسان التابع المنسحق، الأُضحية بكلّ معنى الكلمة وهو الذي يموت في النهاية نيابة عن مجيد الذي بات في عداد الأموات.

يتحوّل الكلب في القسم الثاني شخصيّة رئيسة، يتحدّث عن انسحاقه والظلم الذي يتعرَّض له، ويتحوّل لسان حال مجيد في حالة صراعه وضياعه وعجزه النهائيّ، حين اشتدّت عليه الهلوسات، وانصرف إلى خطابات تعبّر صراحة عن البؤس والشقاء والحرمان، وتدعو إلى الثورة العنفيّة، كأنّه ينطق باسم كلّ مظلومي الجزائر، لا بل مظلومي العالم، هؤلاء هم "المنكوحون". وهنا يمكن أن نفهم ما المقصود بعنوان الرواية الجريء. فالـ"منكوح" في لغة الأمازيغ هو الإنسان التعيس الحظّ السيّئ الطالع، الذي سحقته الحياة والقدَر، واللفظة بمعناها ليست بعيدة عمّا يقال عن هذه الفئة من الناس في لغاتنا العامّية.

في روايتها هذه، التي لا تتعدّى المائة صفحة، عكست نسرين النقوزي صورة المجتمعات العربيّة في تعاستها وضياعها، وفي انسداد آفاق التحرّر والانعتاق أمام الشباب العربيّ في كلّ حين وعصر (نحن نرى مجيداً يتحدّث عن نفسه وهو عجوز في التسعين من عمره). فمجيد من طرف، وحسّان من طرفٍ آخر، يحلم بحياة سعيدة يراها عند الآخر، لكن يبدو أنّ الاثنين متساويان في الحرمان وانسداد الآفاق، لا أمل لهما لا في النضال (حسّان وقتاله) ولا في الثورات (مجيد ورفضه المظاهرات البيضاء التي لن تنفع شيئاً). هكذا يبدو الاثنان متساويَيْن في البؤس والشقاء، كما يقول زياد الرحباني في إحدى أغاني: "المعتّر بكل الأرض دايماً هو ذاته".

 

إسقاط الواقعيّ على الافتراضي

وإن تكن القضيّة التي تطرحها الكاتبة معروفة ومطروقة، إلا أنّ طريقة معالجتها هي اللافتة، وقد وضعتها في سياق القصص والروايات المُستمدّة من العالم الافتراضي، عالم التواصل الاجتماعي. فالنصّ كما ذكرنا إذن هو في معظمه عبارة عن مراسلات نصّية بين البطلين، تنقل فيه الكاتبة كلامهما كما يُفترض أنّه جاء بصوتهما، أو بجملهما المكتوبة، وكان لها الجرأة في أن تنقل صراحة ومباشرة من القاموس اللغوي الذي يستعمله الشباب في مراسلاتهم، ولولا ذلك لفقدت الرواية شيئاً من واقعيّتها وصدقيّتها. والأمر نفسه يقال عن نقلها المفردات وعبارات التعجّب أو الضحك الدارجة على  هذه الوسائل حدّ الابتذال "هاهاهاهاها" أو "هههههههه" أو في النداء من بعيد "واااااااااا حساااااااان"، وغيرها، لكنّها عرفت كيف تقتصد في استعمالها تحاشياً للانسياق وراء هذا الابتذال.

ميزة أخرى في نصّ النقوزي، وهي السخرية والاستهزاء والإضحاك، على لسان البطلَيْن وفي تصرّفاتهما، وذلك تعبيراً عن نقمة أو تصويراً لحالات التسلّط والكبت والحرمان. ومن المعروف تماماً أنّ الشعوب تعبّر عن الحالات الاجتماعية المنهارة بالسخرية عندما يُسقط في يدها وتعجز عن أي تأثير أو تغيير. فهي تنقل ما رُفِع على اليافطات في مظاهرات الجزائر من مثل "زوجونا كرهنا التبنييط"، وسواء كانت هذه الصورة صحيحة أو مركّبة، فإن الكاتبة وظّفتها في المكان الصحيح لتصوير واقع الشباب العربيّ العاجز، بسبب الأوضاع، عن الزواج، والمُكتفي بالاستمناء وحسب، وفي ذلك طبعاً المضحك المبكي.

ومن المشاهِد المضحكة والمعبّرة هو مشهد حسّان الذي يسبق والده، قبل أن يحضر لإيقاظه لصلاة الفجر، إلى الاستمناء نكاية به، ويقيم الصلاة من دون وضوء، وهو لم يتوضّأ إلّا بعد وفاة والده.

أخيراً راوح أسلوب الكاتبة، ما بين الواقعيّة في نقله لغة وسائل التواصل، وبين الجماليّة في السّرد وصولاً إلى عبارات ومقاطع زاخرة بنفحات شاعريّة رمزيّة معبّرة.

"المنكوح" لنسرين النقوزي تجربة لا تخلو من جرأة في طرح القضايا ومحاولة صريحة لإسقاط العالم الواقعي على العالم الافتراضي أو العكس.
_______________________

[1] . نسرين النقوزي، المنكوح، طبعة أولى في القاهرة، 2021، وطبعة ثانية في المغرب، 2021. صدرت الطبعة الثالثة عن دار النهضة العربيّة بيروت، 2024 (96 صفحة).

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها