السبت 2023/12/30

آخر تحديث: 09:20 (بيروت)

2023 عام الكوارث الطبيعيّة المُنذِرة... لعبة الزمن

السبت 2023/12/30
2023 عام الكوارث الطبيعيّة المُنذِرة... لعبة الزمن
زلزال تركيا
increase حجم الخط decrease
حاولت في مطلع شبابي أن أُمسك دفتر يوميّات ألتزم بتدوين أحداث نهاري فيه على غرار ما يفعل الكثيرون. وربّما حاولت أن أجعل من رأس السنة، أو من عيد ميلادي محطّة أتوقّف عندها دوريّاً، من سنة إلى أخرى، لأكتب وأستخرج شيئاً ما من بطن هذا الزمن الراكض أو المُراوِح في مكانه، المتجدّد على حساب أعمارنا أو وجودنا. لكن وبكلّ بساطة سقطت كلّ محاولاتي هذه، على الأرجح لأنّني لم أرَ أهمّية لما سأدوّنه إذ لم أكن أرى لنفسي أي أهمّية بعد. لكن ما اكتشفته لاحقاً هو أنّ علاقتي بالوقت والزمن هي الواهية، هذا إن لم تكن ساقطة من الأساس. فأنا لطالما رغبت في عدم الانضباط بحركة الزمن، في الطيران فوقه او خارجه، أو التفلّت منه لأسبح في فضاء فارغ أتقلّب في جوفه الهائل ولا أغادره. هذا الزمن الثابت في حركته، الماضي قُدُماً دونما توقّف، كأنّما هو "حصير نقّال" بضائع أو "بساطٌ جارٍ" يسير بنا، نقف عليه ولا يتوقّف، ولو حاولنا الإفلات بالانكفاء أو الركض إلى الوراء سيستمرّ في الذهاب بنا إلى حيث يشاء، حيث الطرف الآخر المسدود، أو المنفتح على كلّ ما في رؤوس البشر من تخيّلات فكريّة وفلسفيّة ودينيّة. هذه العلاقة الواهية بالزمن، وعدم رغبتي في الانضباط الآسر، كأنْ أطير وأحلّق خارجه، او أفكّ كل رباطاتي به، ربّما هي كلها سرّ فوضويّتي، وعدم إيلائي أي أهمّية لهذه السيرورة القسريّة.

نقول "قسريّة" لأنّها تجعل الكائن البشريّ يحسّ، لا بل يعيش تضاؤله أو خفّته، كما عند ميلان كونديرا. أليس أنّ هذا الكائن يضمحلّ ويمّحي أبداً في ظلّ الحدثان الكبرى؟ هل نذكر من قضوا في الطوفان أم نقول "سنة الطوفة" (1955، نهر بو علي طرابلس)، كما نقول سنة "الثورة" (1958) وسنة "النكبة" (1948) وسنة "النكسة" (1967) سنة "انفجار مرفأ بيروت" (2020) وسنة اغتيال فلان أو علتان. ولكل الشعوب أحداث كبرى يؤرِّخون بها، لكن هناك سنوات تفرض نفسها بأحداثها على كلّ الشعوب، 1914 (الحرب الكبرى)، 1939 (الحرب العالميّة الثانية)، 2019 (سنة جائحة كورونا) وقد دخلت السنة في تسمية هذا الفيروس "كوفيد-19".

قد تمرّ السنوات عاديّة، يرتاح فيها وإليها البشر وتعلق في ذاكراتهم بعض مجرياتها العاديّة اللافتة. لكن التأريخ بالسنوات أكثر ما يكون لِما شهدته من كوارث ونكبات وحروب، ونادراً ما يكون بذكر الانجازات البشريّة والنجاحات والاختراعات، حتى ولو كانت بعض تواريخها محفوظة، فالسلبيّ غالباً ما يطغى على الإيجابيّ، وهذا ما يودّعنا به الـ2023؟

سنذكر الـ2023 بحدثين كبيرين: زلزال تركيا وسوريا الذي راح ضحيته أكثر من خمسين ألف شخصٍ، وحرب غزة التي ما تزال نارها مشتعلة، والتي قد تُسفِر نتائجها عن عدد أكبر من الضحايا.

تحدّيات الطبيعة

في الزلزال دُفنت مدنٌ بأكملها، انشقّت الأرض وابتلعتها، وخصوصاً في محافظة حلب في سوريا حيث لم تسعِف الوسائل، ولا تحفّزت الهمم على ما يبدو لبذل محاولات إنقاذ جدّية فتُرِكت القرى مقابر جماعيّة. مشاهد الدمار والاهتزازات، وتشقّقات الأرض وانخسافاتها أعطى إلى حدٍّ بعيد مصداقية لما كنا نشاهده في الأفلام ونعتبر أنه من الخيال المصطنع ومن باب الوهم والرعب المحبَّب إلى قلوب الكثير من المشاهدين. لكنّه كان هذه المرّة رعباً حقيقيّاً عاشه من عاين الوقائع مباشرة على الأرض أو على الشاشات ووسائل التواصل الاجتماعي. لكن الرعب الحقيقيّ هو ما عاشه كلّ فردٍ منّا وهو يعاين على مدى أربعين ثانية تقريباً اهتزاز كلّ ما حوله في الغرفة، في المنزل، في المبنى. مَن منّا لم يرَ للتوّ المبنى يترنّح وقدّر عن حقّ أنّه على شفير الانهيار، وأنّ جزءاً بسيطاً من الثانية كان يفصله عن الانهيار الكبير، عن سقوط السقف على رأسه، وعن تكوّم الركام فوقه. لقد رأينا لحظة الموت بأعيننا. قاتِلٌ هو هذا الوعي الكلّي لما يحدث قُبَيْل الضربة القاضية. أنْ نقدّر خطر تلك اللحظة، في حينه أو لاحقاً، يعني أنّنا نعي مدى هشاشتنا، ومدى صغر الإنسان وحقارته. وأن تتوالى الهزّات، وإن بدرجات أخفّ في الأيام التالية، فكأنّما الطبيعة تدقّ بابنا منذرةً محذّرةً مهدّدةً. وما أكثر تهديداتها في الـ2023. فمن زلزال تركيا وسوريا، إلى زلزال المغرب حيث دُفنت منطقة بأمّها وأبيها، إلى الفيضانات في ليبيا التي محت قرى بأكملها، وإلى فيضانات العالم وحرائقه في أوروبا وأميركا الشماليّة والجنوبية. الحرائق الأكثر حصداً للأرواح والمساحات والأكثر ضرراً بالطبيعة والمناخ. وماذا بعد؟ لقد سجلت المختبرات والمراصد أنّ هذا العام هو الأكثر دفئاً او احتراراً في التاريخ. هل يعني ذلك أنّنا في مسار تصاعديّ وصولاً إلى تحوّل الكرة الأرضية كتلة جمر! كلُّ تخيّل هنا مسموح إذا ما استمرَ الإنسان في إيذاء الطبيعة والإخلال بتوازناتها. ويبدو أن المؤتمرات الدوليّة السابقة الخاصّة بالمناخ لم تؤتِ ثماراً. فإلى متى الإهمال وإلى متى نصمد؟ ربما هذا هو الناقوس الذي دُقّ فدفع قمّة دبي للمناخ "كوب 28" إلى وضع مشروعها ورسم خطّتها للحدّ من الانبعاث الحراري والتخفيف من استعمال أنواع الطاقة المؤذية، الأحفوريّة منها بنوع خاص، مع إنشاء صندوق لدعم المشاريع في هذا المجال.

غزّة، طوفان المآسي

ويبدو أن البشريّة في العام 2023 لم تعِ بعد أبعاد هذه المخاطر الطبيعيّة، أو هي تتغافل عنها، ربّما لثقة كاملة في النفس بأنّ الانسان قادر ساعة يشاء على التغلّب على الطبيعة، وكأن شيئاً لم يصلها من الإنذارات الجدّية التي توجّهها الطبيعة، فإذا سياسات الدول تولِّد الازمات والمآزق، وتغرق في المزيد منها. وها هي حربٌ جديدة في غزة-فلسطين مشرَّعة على مصراعيها، ومفتوحة على كلّ الاحتمالات ويُحكى عن أفقٍ زمنيّ غير محدود أمامها. حرب تطحن الحجر وتمحو البشر في إبادة جماعية موصوفة، يرتكبها ذاك الوحش النابت في منطقتنا من منتصف القرن الماضي، والنامي بالدعم الغربيّ له، وبخيانات وتخاذلات الأنظمة العربيّة المتلهّية عن القضية الأساس بقمع شعوبها وإفنائها هي بدورها. وكأن هذا الشعب الفلسطينيّ، مقدَّر له أن يدفع هذه الأثمان الغالية، وأن يعيش القهر والظلم والجور، فقط لأنه انوجد في هذه الأرض أرضه، وطالب بهذا الوطن وطنه، وتاق إلى الحق والعدالة والحريّة كغيره من الشعوب. كأنّه بـ"طوفان مآسيه" يدفع الثمن ويفتدي كلّ شعوب الأرض عن ذنب ليس بأيّة حال ذنبه.

وكما في كل زمنٍ وكلّ مرحلة، تنفتح حرب وتشتدّ لتغطّي على غيرها من حروب ليست أقلّ شراسة ووحشية. مع حرب غزة بدا أن العالم نسي حرب أوكرانيا، ونسي ما يجري في السودان، وما حدث وقد يحدث في أذربجيان وإقليمي ناغورني كاراباخ. تبقى هذه الحروب مستعرة، وتبرد في الإعلام، تتراجع إلى الدرجة الثانية أو الثالثة في تراتبيّة الأخبار. وغداً قد تنبثق في مكانٍ ما حرب ما (تايوان والصين مثلاً) تغطي على غزّة وترجع بها إلى مصاف أدنى لكي ينساها العالم. وفي غمرة هذه الحرب والكوارث لم ينتبه العالَم او لم يعرِف أن هناك أكثر من مليار ومائتي مليون شخص في العالم نزحوا أو رُحِلوا قسراً عن أماكن إقامتهم (أكثر من مليون وثمانمائة ألف في غزّة في أقل من ثلاثة أشهر، ويبدو أن العدد على تزايد مع تواصل العمليّات).

حرب غزّة قد تشكّل الشرارة المدخل إلى الحرب العالميّة الثالثة كما تصوّر سيناريو اندلاعها هنتنغتون في كتابه المثير للجدل "صدام الحضارات". خطر التمدُّد والانفلاش والانفلات، قد يصيب لبنان في عمقه أوّل ما يصيب، ونحن في لبنان ما يزال سياسيّونا في حالة غيبوبة، غيبوبة جسديّة وغيبوبة أخلاق وضمير.

حَذارِ المُستقبَل

في الـ 2023 تثبّتت وترسَخت عندنا حالة الاستنقاع في الفراغ، فراغات على كلّ المستويات، حتى فراغ رؤوسهم من كلّ ضمير وأخلاق كما قلت. الثابت عندنا هو استواء أو نضوج حالة التحلّل المؤسّساتيّ والدولتيّ والاجتماعيّ والقيَميّ والسياسيّ، والأمني بشكلٍ ما، حتّى بتنا نعيش في شبه غابة يديرها نظام طبيعي "خَيِّر" حتى الآن يسلك فيه المواطن الآدمي بين ألغام الطوائف والأحزاب والميليشيات واِشباهها، بزعرانها وأوباشها، ولا نعرف متى تنقلب الآية وتسود الفوضى مكان ما تبقّى من أمن، لتصبح الحياة فيه للأقوى. العالم على شفير جحيم وعندنا ما يزالون متلهّين بالسعي إلى مصالحهم وخنق ما تبقّى من نفَس عند المواطن الصالح المغلوب على أمره.

الـ2023 ليست نهاية المطاف، ولا نعرف ما تخبّئ لنا أخواتها القادمات، ولا ما قد تفاجئنا به الطبيعة من مخبَّآتها ومفاجآتها. وعندها لن يبقى نفع من مساحة أرض نتقاتل عليها، ولا من حدود نريد رسمها أو تعديلها، ولا من قوة اقتصادية أو قتاليّة فتّاكة نعتدُّ بهما. فإذا لم تكن الزلازل والفيضانات والحرائق دروساً منذرةً للإنسان، ودعوة إلى التلاقي والتفاهم والتحالف والتكاتف لمواجهة الكوارث المُحتَملة، والتي قد تدهم البشريّة في أيّة لحظة، فمعنى ذلك أنّنا لم ولن نتعلّم شيئاً، وسيبقى "الإنسان بالنسبة إلى أخيه الإنسان ذئباً ضارياً" بحسب مقولة الفيلسوف الانكليزي توماس هوبس.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها