كنيسة الديمان أوّل الأعمال الضخمة
المحطة الأولى الكبرى هي مرحلة رسم سقف كنيسة الديمان، بطلب من البطريرك عريضة، وقد أمضى أربع سنوات في إنجاز هذا العمل الرائع الذي ضاهى به أعمال الكبار في كنائس أوروبا ممّن تأثّر بهم. وقد ميّزت هذه اللوحات المرحلة الكلاسيكيّة والانطباعية، وفيها استمدّ مشاهده والشخوص من محيطه الطبيعيّ الذي اختزن مشاهده في مخيّلته. وفي تقنيّة تصويرية لافتة، وعبر المقابلات والمقارنات مع المناظر الطبيعية، عاد فرشخ بالمشاهد المصوّرة إلى أصولها أو مواقعها الأساسيّة في الطبيعة، مبيّناً مدى تأثّر الدويهي بطبيعة لبنان، ومدى تشرّبه ألوانها وخطوطها وأبعادها، ناهيك من الوجوه البشريّة ذات الملامح المحلّية المعهودة.
بيروت الانطلاقة الكبرى
بعد المحطّة الأولى، مرّ فرشخ بمرحلة بيروت حيث أقام الدويهيّ وثبت شهرته وفرض نفسه بين الكبار، وشارك في معارض مشتركة، ثمّ أقام معرضاً فرديّاً له في فندق السان جورج، وهذا المعرض بيّن مدى الأهمّية التي اكتسبها فنّه وشهرته التي بدأت تطير، إذ إن رئيس الجمهورية اللبنانيّة آنذاك، بشارة الخوري، حرص على افتتاح المعرض بنفسه وبحضوره شخصيّاً، كما منحه وساماً، وربّما هذا ما فتح الطريق أمام الفنان للحصول على منحة من وزارة التربية للدراسة في الولايات المتحدّة، فشدّ رحاله إلى نيويورك حيث أقام، ووجد بداية صعوبة في التأقلم والعيش مع ناسها وفي مجتمعها.
بداية التحوّلات
في هذه المرحلة كانت بداية تحوّل الدويهي بشكلٍ جذريّ إثر مشاركته العام 1952 في معرض في متحف فيلادلفيا، وإذا بأحد النقّاد يكتب عنه ما يلي: "إنّ فنّ الدويهيّ ينتمي إلى فنّ أواخر القرن التاسع عشر...". جاء ذلك بمثابة صدمة للدويهيّ دفعته إلى مراجعة ذاتية لأعماله، ولم يتوانَ في ذلك بل انكبّ مجدّداً على المطالعة والتثقّف وحتى على الدراسة. درس في جامعة فيلادلفيا، وحصل منها على إجازة، كما اطّلع على آراء كبار الفنّانين، وقرأ أعمال بعض الفلاسفة الطليان والألمان، ليبدأ بعدها مرحلة جديدة نحا فيها منحى تجديديّاً تجريبيّاً وصل معها في نهاية المطاف إلى الفنّ التجريديّ والتكعيبيّ.
كنيسة مار يوحنّا في زغرتا..التّحفة
ثمّ تلقّى صليبا الدويهيّ دعوة من المغترب اللبنانيّ قبلان المكاري، الثريّ والزغرتاوي الأصل، والذي كان قد تبرّع بتكاليف بناء كنيسة مار يوحنّا في زغرتا، لزيارته في المكسيك حيث طلب منه تزيين سقف الكنيسة برسومه، فلبّى الدعوة وعاد إلى لبنان العام 1955، وأقام في مدرسة عين ورقة مستوحياً الطبيعة حولها، محضّراً وعاملاً على ما أبدعه من لوحات زيّنت سقف هذه الكاتدرائيّة. زُيِّنت الكنيسة بستة وعشرين لوحة من أعماله، وبقيت لوحة القديس مارون لم تُعلَّق حتى الآن وما تزال محفوظة في الكنيسة. ولفت فرشخ إلى أن الفنان خطّ أسماء القدّيسين باللغة السريانيّة، محضّراً ربّما لمرحلة الحروفيّة (فنّ رسم الحروف وإخراجها بشكلٍ فني على شكل لوحة بحدّ ذاتها).
هنا أيضاً، شرح المخرج بول فرشخ تفاصيل اللوحات التي تزيّن قبة الكنيسة وسقفها، مسلطاً الضوء، انطلاقاً من موضوعها، على ما بدأ يظهر في أعمال الدويهيّ من تغييرات في اختيار الألوان والخطوط وأشكال التعبير، ولافتاً إلى الملامح الشرقيّة المحليّة في وجوه شخوص القدّيسين، وإلى بداية خروجه من الانطباعيّة الطبيعية والرومنطيقيّة. وقد اعتبر فرشخ أنّ عمل الدويهي في كنيسة مار يوحنّا هي قمّة ما حقّقه الرجل من أعمال. إنّها تحفته.
أميركا أيضاً...
ثم كانت الرحلة الثانية إلى أميركا، ومرحلة جديدة واصل فيها إغناء ثقافته الفنّية متعمّقاً على الأخصّ في الدراسات الفكريّة والفلسفيّة والدينيّة، حتى أنّ النقّاد لاحظوا هذا التطوّر فكتبت عنه إحدى الصحف بعد معرض له في إحدى غاليريات نيويورك: "إنّ الدويهي فنّان وصل إلى درجةٍ عالية ومتقدِّمة، ليس في التقنيّة وحسب، بل في الرؤية والفكر".
ويتوقّف فرشخ في الفيلم عند اهتمام الدويهي بالرسم على الزجاج، والاستفادة من هذه التقنيّة لإخراج لوحاته بالأبعاد الثلاثية، وقد درس هذا الفنّ، وعمل مع أحد روّاده، واكتسب خبرته في هذا المجال حتى ابتكر لنفسه طريقته الخاصّة، التي طبّقها في زجاجيّات كنيسة ما شربل في عنّايا، بناء على طلب الرهبنة المارونيّة اللبنانيّة منه ذلك. وهنا أيضاً، وبتقنيّته التصويريّة الرفيعة، أمكن المخرج فرشخ أن يطلِع الحضور على دقة هذه التقنية وجماليّتها، من حيث مزج الألوان والأشكال واللعب على شفافيّة الضوء التي وجد الدويهيّ ضالته فيها رسماً على الزجاج. وبالطبع روى فرشخ تلك الخسارة المؤسفة التي مُنِي بها الفنّ اللبنانيّ والعالمي مع انهيار وتكسّر وتحطُّم كامل زجاجيات كنيسة مار شربل هذه إبّان الحرب اللبنانيّة. لقد دُمرت كليّا بفعل القصف العنيف الذي استهدف تلك المنطقة.
التجلّي تجريباً وتجديداً
ثم كانت المرحلة الأميركيّة الأخيرة، وفيها وصل الدويهيّ في فنّه حدّ التجلّي، بعدما تخلّى كلّياً عن كلاسيكيته ورومنطيقيته وانطباعيته، وتخلّى إلى حدٍّ كبير عن الأبعاد الثلاثية، وعن الظلال ليركزّ على اللون ومساحاته الضوئيّة، وعن الخطوط الشكليّة إلى حدٍّ كبير، مختزلاً استعمالها إلى حدود فاصلة بين هذه المساحات لإبراز التناسق أو التماهي أو التنافر والتعارض. وبحسب فرشخ أنّ الدويهي توّج هذه المرحلة "بالخطوطيّة"، وهو كما ذكرنا أعلاه رسم الحروف والكلمات السريانيّة بطريقة فنّية تجريديّة، في مساحات لونيّة وشكلية تجعل منها لوحات قائمة بحدّ ذاتها.
قبل النهاية
ويعود بنا الفيلم إلى المراحل الأخيرة من حياة الدويهيّ، وقد أمضاها متنقّلاً ما بين لندن وباريس، حيث استقرّ لفترات طويلة أحياناً. وقد دبّ فيه الحنين، بحسب معارفه المقرّبين، للعودة إلى لبنان وإلى مسقط رأسه زغرتا-إهدن، لكن حلمه هذا لم يتحقّق، بل عاد إلى نيويورك حيث توفّي في العام 1994، وقد نُقل جثمانه إلى زغرتا حيث أقيم له مأتم لائق، ثمّ ووري الثرى في مدافن العائلة في إهدن.
أمورٌ كثيرة لفت إليها وأضاء عليها بول فرشخ في الفيلم كما في الحوار لاحقاً، ومنها مثلاً عدم بقاء أي وثيقة أو خبر عن المعرض المهمّ الذي أقيم للدويهي في رالي في نورث كارولاينا. فأثناء إجرائه أبحاثه عثر فقط على كتيِّب عن المعرض، فيه صور وشروح عن لوحاته المعروضة، لكن المؤسف أنّ هذه اللوحات طبعت في الكتيّب بالأبيض والأسود. فلنتصوّر مثلاً لوحة ألوان قوس القزح بالأبيض والأسود، نترك للمشاهد والقارئ أن يقدّر أثر ذلك.
غنائيّة الفنّان وغنائيّة المخرج
لا شكّ في أنّ الفنّان صليبا الدويهيّ، قد أغنى لوحاته وفنّه، في مختلف مراحله بهذه الغنائيّة الشعريّة المعبّرة عن الحالات الوجدانيّة العميقة التي تنتاب النفس البشريّة إزاء ما في الطبيعة وهذا العالم من جمال، كما إزاء المشاعر والأحاسيس الذاتيّة المتوّلِدة مع كلّ كشفٍ عن سرّ من أسرار الجمال. هذه الغنائية رافقت الدويهي في مسيرته الفنّية التي بلغت به حدّ الريادة في عالم الفنّ الحديث، باعتراف كبار النقاد والمعنيّين في الغرب كما في الشرق، وهذا ما جعل عنوان الفيلم "غنائيّة الرائد" منطبقاً تماماً على ما بات يعنيه فنّ صليبا الدويهيّ.
لكن من ناحية أخرى لاحظ الحضور في فيلم بول فرشخ نوعاً الانسياق الوجدانيّ مع سيرة هذا الفنان الكبير، وهو ما أضفى على الفيلم بعداً غنائيّاً نابعاً من ذاتٍ متأثّرة، فكأنما هذه التحيّة أرادها فرشخ قصيدة مدحية "غنائيّة" يهديها إلى الفنان الرائد ابن بلدته، إنما من دون مبالغة فارغة ومن دون أن يسمح لهذا البعد الوجداني بأن يطغى على النفحة النقديّة العلميّة والأكاديميّة في تحليله أعمال الفنّان. علماً أن هذا الفنّان اللبنانيّ هو في نظره، وعن استحقاق، "أيقونةٌ" في عالم الفنّ، لم تُعطَ حقها في وطنها حتى الآن.
وأخيراً، نستعير خاتمة الفيلم لنختم بها نصّنا هذا: في إحدى لوحات الدويهيّ في كنيسة الديمان، يلاحظ الزائز ما يشبه كلمة مكتوبة في ثنايا الألوان من دون أن يتمكّن من قراءتها. ومع تقنيات التصوير والتكبير الرفيعة تمكّن فرشخ من "سحب" الكلمة وقراءتها، فإذا هي: "نيّالكم".
فإلى مَنْ أراد صليبا الدويهيّ التوجّه بهذا التمنّي؟ وأي حسرة كان يعيش؟
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها