الخميس 2024/03/14

آخر تحديث: 13:32 (بيروت)

"الشتاء يعود وحيداً" لآيات القاضي... شجرة الحياة عاريةً

الخميس 2024/03/14
"الشتاء يعود وحيداً" لآيات القاضي... شجرة الحياة عاريةً
ديوان القاضي، هو أقرب إلى سجلٍّ ملاحظات ت
increase حجم الخط decrease
لو كان لي اختصار ديوان الشّاعرة آيات القاضي، الصّادر حديثاً عن دار النّهضة، تحت عنوان "الشّتاء يعود وحيداً"، لاخترتُ هذا المقطع من إحدى قصائده:

"(...) إلّا أنّني أودّ أحياناً الحديث

عن أشياءَ تافهة

عن عطلٍ في صنبور المياه

عن الرّطوبة الزّائدة في بيتي

أو التّحدث عن أمور عميقة

عن الخطيئة الكُبرى

عن وهم الجسد (...)"

 

الموت البطيء
إن الشاعرة القاضي عالقة في متاهة "شاعريّة الحياة اليوميّة". تبحث في الأمور نفسها عن تفاصيل عاديّة مألوفة لتجعل منها لوحات لغويّة خياليّة. وفي الوقت عينه، تبحث أيضاً عن مفاهيم مبهمة مجرّدة لتصنع منها ألعاب قصائدها. من هنا، يمكننا تبيُّن التّرابط الوثيق بين شعر القاضي ونظرتها إلى العالم. وهذه النظرة ليست غريبةً أبداً عن قصيدة النّثر، لا بل تشكّلُ رُكنها الأساسيّ، إنّها الكتابة من صلب الواقع، بِلُغَةِ الواقع، بسخريّة ورقّة ولامبالاة الواقع. قصائد القاضي قصائد حقيقيّة، يكتبها إنسان من هذا العالم ومن هذا الزّمن.

لكن، إذا أعدنا النّظر في العديد من المقاطع الموجزة المكثّفة، التي تتشّكل منها قصائد القاضي، نستطيع أن نستشفّ نَفَسَ فلسفةٍ ما، منطبعة بالوجوديّة أو مُستقاة من العدميّة. ففي هذه اللّغةُ "المضغوطةُ" والمكثَّفة الكلمات لا يُمكن إيجاد منفسٍ لتسرُّب نسمة هواء أو شعاعٍ ضعيف لِيَقِيَ القارئ، قبل الشاعرة على الأقلّ، نفسه من كمين أسئلة تطرح العقل أرضاً بين الكلمات المشرّدة من ثِقلها وشدّة اليأس المحقون فيها. لغةُ القاضي، لغةٌ قادرة على حمل السّلاح، وتحملهُ عنوةً. إن المزج بين المكوّنات البسيطة للأيّام والعادات اليوميّة من جهّة، والمفاهيم الفلسفيّة والتّساؤلات الفكريّة الوجوديّة والرّمزيّات الخانقة من جهّة أخرى، لا بدّ له أن يشكّل ملامح فكرٍ فلسفيّ ما، شأنه شأن كلّ تَلاقٍ بين أيّ عالمَين يبدوان للوهلة الأولى متباعدَين. وما هي إلّا فلسفة "الموت البطيء".

إن هذه الفكرة، أيّ الموت البطيء، تشبه إلى حدّ كبير، السّقطة. إذ إنّ الإنسان العالق في حالةٍ من السّقوط الدّائم من مرتفعات الخيال والرّقة والحبّ الصّادق الحقيقيّ، يمعن النّظر في كل ما يطلع أمامه من تفاصيل يراها كأنّه يكتشفها للمرّة الأولى. السّقطةُ هي الحياة من جديد وبسرعة. "الأحلام التي تحوّلت إلى رصاصة"، "مدنٌ بائسةٌ"، "من المؤلم المقامرة بروائح مهزومة"، "الكلمة تفرغ أيضاً"، وغيرها الكثير، كلّها أمثلة على رأس اللّغة المروّس الذي تحوك به القاضي قصائدها، "مُقطِّبةً" عليها وجهها المُتْعَبَ من اليأس وخسارة الرّهانات على البلاد والأحبّاء.

صحن عناوين بالشّوكة والشّكل
ولعبة اللّغة الحادّة عند القاضي لا تنكفئ فقط عند حدود التّعبير ضمن جسد القصيدة، بل تتوسّع لتشكّل جبهتها المكشوفة. إذ إن عناوين قصائدها تُشكّل بحدّ ذاتها أحجيةً صوريّةً وتراكيب لغويةً غريبةً، تشعّ لكنها لا تضيء. إنّ إشكاليّة العنوان، ليست وليدة اليوم، فما بين التّحديد والإيحاء، وما بين البُنى الكلاسيكيّة والألعاب اللّغوية، يقع العنوان ضحيّة المحتوى. ففي ديوان القاضي، تشعر أن العنوان جزء من القصيدة. وعند التركيز على الشّكل والمظهر، يبدو إن اقتصار القاضي في أغلب قصائدها على بِضْعِ جُمَلٍ في كل مقطع، يُنزل العنوان بشكل سلسٍ مَنْزِلَةَ المقطع الأوّل منها. ويترتّب عن ذلك أن تصبح القصائد بمجملها غير معنونة، أو كأنّها تشكّل جنباً إلى جنبٍ قصيدة طويلة، أو سلسلة ملاحظات على دفتر يوميّات وجدانيّ.

وهذا الإيحاء يؤكّد في نفس القارئ التّرابط الحسيّ والفكريّ بين شعر القاضي والواقع الذي يشاركها القارئ إيّاه. إن عناوين القاضي، أشبه بطلقة ناريّة في الهدوء، هدوء ما قبل العاصفة، التي ستنذر القارئ بحدوث شيءٍ ما. ويصبح هذا الأخير بدوره في وضعية انتظار وتّرقب، يبحث مع الشّاعرة عن هذا الحدث الضّائع، الذي لا بدّ من وقوعه، الذي تمهّد القصائد كلّها الطّريق له ليحدث بكامل قوّته ويترك آثاره على الكلمات والمخيّلات. ومع الوقت، صفحة بعد صفحة، نكتشف كلّنا أن لا شيء جديداً سيحدث، سوى ما حصل ويحصل كل يوم، كل ساعة، وكل لحظة. وإذ القصيدة، كل قصيدة، لا تشكّل سوى أوراق خريفيّة تهوي الواحدة تلو الأخرى، لتترك لنا شجرة الحياة عاريةً، وتكفي لتشبع حاجتنا المتبقيّة إلى الموت فقط.

لاحظ ما يلي!
بالعودة إلى الفكرة التي انطلقنا منها، أعني "شاعريّة الحياة اليوميّة" في قصائد القاضي، فإنّنا لا نقصد بذلك أن نُقرِن، بطريقة غير مباشرة، صفة اليوميّة لقصائد القاضي، إذ لا يصحّ ذلك. فهذه القصائد، ولو حَوَتْ أفكاراً وتساؤلات وملاحظات يمكن أن تحدث لأيّ شخص كلّ يوم، إلا أنّها لا تتكرّر معه كل يوم بعد ذلك، لكنها تترك أثراً متوسِّعاً أو متمدّداً كالشعر في الزجاج.

إنّ ديوان القاضي، هو أقرب إلى سجلٍّ ملاحظات تحدث مرّة في الحياة، لكنّها خفيفة لدرجة أنْ لا أحد يشعر بحدوثها ولا بانطباعها في الأذهان. اللّحظات "الخفيفة" هي تلك التي تحدث كأنّها أقل من لحظة حتّى وأقرب إلى دهرٍ بأثرها اللّطيف. هي قُبَلُ الزّمن على النّفوس. لكن، هذه اللّحظات عينها، بقدر ما تبدو عليه من براءة، بقدر ما تُنزل في النّفوس حيرةَ الفكر والشّعور. إذ إن ملاحظة المدن في بؤسها، كما تشير القاضي في إحدى قصائدها، هي نقطةُ لا عودة في نظرتها إلى العالم. ولو عاد الشّعور والحدس نفسه إليها مرّةً أخرى، لأدركت حينها فوراً أنّه ليس بجديد ولا تضعه مرّة أخرى في خانة الملاحظات الخفيفة بل في تلك الخانة الخاصّة بطبيعة العالم التي تتكرّر من دون مَلَل. إنّ هذه "الحالة" اليوميّة قادرةٌ أن تجعل من كل شعورٍ خلاصةً، إذ تصعدُ فيها الوجدانية صوب العقل لعلّها تهدّئ فورته في وجه قمعِ منطقه. واللّغةُ، في هذا المعرض، عبر بُنْيَتِهَا، تساعد في تعميم ما لا يعمّم. فهي تعمل على الاحتيال على أدوات التّدقيق المنطقي والعقلاني ليصبح الشّعور باليأس أو البؤس أو الحيرة نوعاً من التأقلم الطّبيعي في العالم اللّامنطقي. إن عملية التأقلم هذه، هي خلاصة عملية شيطنة لامنطقيّة الواقع، هي خطّ الرّجعة الذي يفتحه الإنسان وهو في خضمّ تهديم كل معالم العالم الكاذبة الموحية بالرّاحة والفرح والعدالة والسّلام. التأقلم هو قدر العظماء وفقط العظماء.

نصب واحتيال
إن كل عمليّة كتابة، إن لم تنطلق من الواقع، كيفما كان، هي أشبه بعملية نصب واحتيال وحسب. إن الشعر الذي لا يعرف أباه ليس شعراً. وكلّ هذا العالَم، إن لم يتّسع قليلًا بعد ليقول كل منّا كلمته، ليشعر بما لم يتسنَّ له بعد اختباره، ليتعلّم اليأس والتّعب والنّوم اليابس في انتظار حبٍّ لا يأتي، لا يصلح أنْ يكون عالَماً. في النّهاية، إن شاعريّة القصيدة ليست باللّعب على الكلمات، وبناء الكلام على أرضيّات جاهزة تستلطفها الآذان، ولا على نكش المعاجم والتّراث الغابر -كلّ التّراث غابر- وكتابات الزّمن السّابق، بل على صدقيّة الشّاعر. كل الكلام تجرفه الرّياح، إلّا ذاك المكتوب على القلب. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها